يمكن الاتفاق مع الكاتبة والأكاديمية هدى فخر الدين على أن عنوان كتابها "زمن صغير تحت شمس ثانية"، الذي صدر مؤخّراً عن "دار النهضة العربية"، عنوان دال على متنه، إلا أن هذه الدلالة جزئية كما يتّضح بعد قراءة صفحات قليلة.
صحيح أن هاهنا يوميات تتوالى تحت شمس ثانية، كما يشير ما تلتقطه من شوارع وغيوم وأمطار مدينة بلومنغتن، أي غير شمس الوطن المألوفة، ولكن الزمن ليس صغيراً كما يودّ العنوان قوله أو الإيحاء به، بل هو زمن شاسع كما هو الأفق الممتد بلا نهاية يقف عندها. ليس بسبب المتاهات أو الجهات التي تكرّر الإشارة إلى لاتحدّدها تارة وإلى غيابها تارة أخرى تحت هذه الشمس، بل بسبب "الكلمات" و"أسلوب" التصوير الذي يلتقط مشاهد شعرية وليس فوتوغرافية. ونعني بالشعرية قدرة التصوير على تجاوز حدود وقيود الشكل الأدبي، سواء كان رواية أو مسرحية أو قصيدة، إلى غير المرئي الماثل في مكان ما وراءه، في هذه الزاوية أو تلك.
من ذلك، على سبيل المثال، بثّها الحياة في الموجودات من حولها؛ أماكن أو معالم أو جدران أو ظواهر طبيعية كالمطر والثلج والشجر. وكأنها تردّ هنا بالإيجاب على تساؤلات الفنان والشاعر السنغالي عيسى سام حين تساءل وهو يجلس في حديقة بيته في داكار: "هل يمكن أن تغنّي محارة؟ هل يمكن أن تكون الشجرة أُمّاً لي أو أباً؟ هل يمكن الحديث مع النهر؟".
هي لم تتحدّث مع نهر أو شجرة أو غيمة عابرة أو جهة من الجهات، ولكنها صوّرت هذه الأشياء وجعلتها تتحدّث إلينا، بعدما لاحظت منذ أيامها الأولى تحت هذه الشمس الثانية أن "لا أحد هنا ينتبه لألوان الغيم ولا أحد يستمع إلى كلام المطر". ويتعمق هذا المسار، كلاماً وأسلوباً، في الإيحاء بالغربة وشجنها أو الإيحاء بالوطن وألفته في تداول كلمة "الجهات" بمعنيين متناقضين، أي بمعنى الحضور والغياب. فهي تدل حين تكون معروفة على الوطن كما في عبارة مثل هذه "... كيف لي أن أمشي في متاهات هذه البلاد، وأنا التي جئتُ من بلد صادقتُ فيه الجهات. ففي لبنان تأتي الأمكنة إليك وتذهب معك، وليست الجهات إلا تحيات".
ولكن "الجهات" بغيابها ستدل على الاغتراب والحياة تحت سماء وشمس أخرى حين تتكرر الإشارة إلى "غياب الجهات" أو حين يفقد الطالب القادم من قرغيزستان "إحساسه بالجهات"، فيكون هذا الفقدان سمة مميزة لهذا الطالب، أو حين يلتفت الإنسان يميناً ويساراً في مدينة تتشابه طرقاتها ولا يجد نفسه.
ومعرفة الجهات أو عدم معرفتها استعارتان جميلتان للتعبير عن الانتماء إلى المكان أو الانفصال عنه، كما هي بقية الاستعارات المعبرة شعرياً، أي برؤية غير المرئي، كما في قولها بعد وفاة جدّها أمام ناظريها: "صرتُ كلما عدتُ من البلاد القريبة والبعيدة.. أبحث عن جدّي مزهراً في كل الجهات"، أو كما في قولها على العكس من ذلك: "وصلنا إلى فيرمونت.. شجرٌ صامتٌ لا يلتفت وجبال متربصة تعلو أكثر فأكثر.. أتذكر كيف انحدرت بنا السيارة فغارت الجهات".
"الجهات" كلمة دلالية بالغة الأهمية، في مدّ الزمن إلى ما وراء حدوده المعروفة عادة، وتكرارها، سواء لتأكيد غيابها أو حضورها، ولكن هذا الامتداد المتعلق بالشعور مباشرة يكتسب قوة مهيمنة أكثر تأثيراً بوساطة تقديم الكاتبة للأشياء وهي تتحدث وتتهامس وتنتظر.. فتصبح نبضات الحياة في الأشياء من حولنا ذات دلالة مهمة أيضاً ليس على مدّ الزمن فقط بل وعلى اختراقه إلى زمن آخر أسطوري يعود بالإنسان إلى بدايات التكوين، إلى البدايات التي نجد الكاتبة تتساءل عن سرّها في نهاية رحلتها بين المدن الغريبة، وعلاقة الحب بينها وبين أحمد، المنفي الآخر مثلها ولكن عن فلسطين، وولادة طفلتهما، فتقول: "ما سرّ البدايات؟ لمَ يكون كل شيء في أوّله أكثر توهجاً؛ الحب، الضوء، الوقت.. حتى الكلام؟".
ولا أدلّ على هذا التعلّق ببدايات هذه صفاتها، من مواصلة إيقاظ الطبيعة بشجرها ومطرها وغيومها وتلالها، وتحويلها إلى حشد من الممثّلين في دراما إنسانية ذات مكانة مميزة، سواء في سياق رسم مشهد جنازة أو في سياق رسم مشهد حرب، كما في هذين المشهدين: ".. عندما قامت جنازة جدّي انتبه البيت. تشبّثت البوابة الخضراء بمفاصلها وثقلت. خرجت الجنازة إلى الحديقة، فأطرق اللوز والتين الذي لا يموت، انكمش خجلاً".
وأيضاً في قولها: "في حديقة جدّي لوزة عتيقة.. ساهمة دائماً، كانت اللوزة تحدق في البعيد، تترقّب شيئاً ما آتياً من وراء التلال.. وفي كل هجوم وحين تنحني شجرات الرمان وتطبق أغصانها الكثيفة، تبقى اللوزة ساهمة ترنو إلى البعيد، تحدق من خلف الحائط، تراقب الدخان الأسود الذي يتصاعد من وراء التلال".
يبدو أن سبب غربة الكاتبة الحقيقية، أو توسيعاً، غربة الإنسان في هذا الكون، هو كما قالت في بداية وصولها الى المكان الغريب لأن ".. هنا لا أحد ينتبه لألوان الغيم ولا أحد يستمع إلى كلام المطر"، أو لأن "الليل والنهار لا يتحادثان هنا. وقد بدأت أشك في أنهما لم يتعارفا بعد. لذلك.. الشمس لا تشرق في هذه البلاد".
هذا التوسع في دلالة الكلمات والأسلوب التصويري، الشعري في المقام الأول، وضع أمامنا نصاً مختلفاً عن نص قصة أو يوميات، هو أقرب إلى نص سردي يتجه نحو أفق شعري، ويحاول بلوغه. أهم ما في هذا النص تحويله البسيط والعادي في الحياة اليومية إلى مفردات عالم آخر كان فيه الإنسان يصنع أساطيره ويعيش فيها، أي كان الكون بالنسبة له ملحمة حية وليس كلمات عابرة في نشرة أخبار.