كان الناس يعتقدون، منهم علماء وخبراء في الطبيعة، بأنّ الطيور في العصور السابقة وحتى القرن السابع عشر تسافر أو تهاجر إلى القمر. وهذا الاعتقاد السائد كان معللاً بحجج وإحصاءات علمية. حينها، لم يكونوا على علم بأنّ القمر ليس سوى غبار وصخور وفوهات بركانية عملاقة وفارغة، وبأنّ سطحه خالٍ من أيّ شجرة أو بحيرة أو مخلوقات بما في ذلك الطيور. ونزول الإنسان على سطح القمر في القرن الماضي كان ليأتي صادماً للعلماء القدامى لو كانوا أحياء، خصوصاً العالم والوزير الإنكليزي تشارلز مورتون الذي كان يتميّز في القرن السابع عشر بعقل علمي حشري. ذلك الرجل كان مسحوراً بهجرة الطيور.
في كل عام، في الوقت نفسه، عندما يشتدّ البرد وتتضاءل الموارد الغذائية، تتجمّع الطيور وتطير في السماء قبل أن تتوارى عن الأنظار. لم يكن أحد في العصور السابقة يعلم إلى أين تذهب. وقد شغل ذلك اللغز عقول البشر لأعوام عدّة. ظنّ بعضهم، منهم أرسطو، أنّ الطيور تظهر من جديد متقمّصة بكائنات حيّة أخرى أو أنواع أخرى من الطيور. على سبيل المثال، كان الاعتقاد بأنّ طائر الحميراء يتحوّل إلى طائر أبو الحنّ، وهازجة الحدائق إلى عصفور التيان. بالإضافة إلى ذلك، ظنّ بعض الناس أنّ البطّ يفرّخ من بين أوراق الأشجار المتدلية فوق الماء وليس من بيضة، بالتالي يحقّ لهم تناول لحم البطّ في أيّام الجمعة التي كانت محصورة بتناول الأسماك. أمّا آخرون، من أمثال الكاتب السويدي الشهير أولوس ماغنوس، فرأوا أنّ طيور السنونو تدفن نفسها في أعماق طين الأنهر في فصل الخريف ثمّ تخرج لتفرّخ في فصل الربيع.
لكنّ مورتون وجد أنّ تلك النظريات منافية كلياً للمنطق. بالنسبة إليه، مع حلول الشتاء الذي يكشف عن "وجهه القبيح"، تتّجه الطيور إلى السماء، ونحو القمر مباشرة. هو كان قد خرج بنظرية مقنعة للناس في القرن السابع عشر بعدما أجرى حسابات للمسافة التي تفصل ما بين الأرض والقمر، وقد قدّرها بـ 289 ألفاً و218 كيلومتراً. في الواقع، لم يكن مورتون بعيداً في حساباته عمّا توصّل إليه العلماء في وقت لاحق، فهؤلاء قدّروا بعد القمر عن الأرض بما بين 226 ألف كيلومتر و253 ألفاً. وقد أوضح مورتون أنّه في حال حلّقت الطيور بسرعة 200 كيلومتر في الساعة (معدّل سرعة الطيور هو 65 كيلومتراً في الساعة)، فإنّه سوف يلزمها 16 يوماً حتى تصل إلى القمر. أضاف أنّه في إمكان الطيور بلوغ هذه السرعة التي لا تُصدّق لأنّها لا تصادف مقاومة هوائية لها في الفضاء، مشيراً إلى أنّ الطيور تنام وهي تحلّق في الفضاء وتحلم معظم وقت طيرانها نحو القمر. وتابع أنّ الطيور تقع على مراكب البحّارة من السماء (أي من القمر). في الواقع، لم يكن البحّارة يعرفون أنّ الطيور تأتي من الأفق ولم يروها آتية، بل كانوا يتفاجؤون بها فوقهم أو وهي ترتاح على مراكبهم في أثناء هجرتها الحقيقية. وهذا أمر ما زال يحدث حتى يومنا.
لا شكّ في أنّنا ندرك اليوم أنّ الطيور تهاجر بكلّ بساطة نحو الدفء، حيث يمكنها أن تجد الغذاء الذي تبحث عنه بكلّ سهولة، وأنّ القمر ليس سوى صخرة عملاقة جرداء في الفضاء. أمّا في الربيع، فالطيور تتّجه شمالاً إلى البلاد التي يطول فيه النهار، أي مدّة دخول الضوء إلى العين ومنها إلى المخّ، الأمر الذي يسمح للأخير بإعطاء الأمر إلى الغدد الصماء لتنشّط الحياة الجنسية فتضع الطيور بيضها في فصل الربيع الذي يبلغ معدّل نهاره 14 - 16 ساعة. من هنا استلهم الإنسان فكرة إطالة النهار في أقفاص الدجاج فصار يترك الأضواء مشتعلة في الليل، الأمر الذي يزيد إنتاج بيض المزارع.
*اختصاصي في علم الطيور البريّة