أمر مريب، لم أشعر بالحرج من عُريي! حتى طبيبي الخاص لم أسمح له يوماً بأن يراني هكذا. تفقدتُ مخزنيّ الذخيرة فوجدتُ أنهما سليمان تماماً ولائقان بفحل من العرق الآري. نويتُ أن أتقدم "له" بالشكر لإصلاحه أخطاء الطبيعة.
قادتني فتاة يربو طولها على الثلاثة أمتار إلى هرم مقلوب وأدخلتني في جوفه. فجأة تلاشى الفارق في الطول بيننا وصرنا بكيفية لا أعلمها متساوين في القامة. أبصرتُ ملابس فصّلها خياطون عميان، طلبتْ مني أن أختار منها ما أشاء، فوقع اختياري على بذلة تتجاور فيها الألوان الثلاثة: الأحمر الصدئ، الأصفر الضارب إلى صفرة الغروب، الأزرق الأدخن. لقيتُ عنتاً في ارتدائها، بدت لي مصممة من قماش مقوى ومصبوبة في قوالب هندسية لا تمت بصلة للجسد البشري. قالت مضيفتي ضاحكة وهي تراني أتقلقل في بذلتي التكعيبية: "سوف تعتاد عليها بعد أن تتمشى تحت أشعة شموسنا". لم ينصرف انتباهي إلى كلامها، ولكني ركزتُ على حدقتي عينيها، فرأيتُ أنهما ملونتان بألوان قوس قزح، إنسان العين بلون بنفسجي، ثم تتدرج الألوان من الغامق إلى الفاتح في حلقات. شهقتُ تأثراً من هذا الجمال الصارخ وانتصب الشعر في ساعديّ، وتمنيتُ لو أن له مثيلاً على الأرض. هذه هي الأنثى التي كنت أحتاجها لإثبات تفوّق عرقنا. وسوستْ لي نفسي هذا الخاطر: ماذا لو خطفتها وتمكنتُ بطريقة ما من العودة؟؟ لا شك سأثيرُ الذهول في العالم أجمع.. المسيح الآري الذي قام من الأموات وبصحبته زوجة فارعة القامة وبارعة الحسن.. يا للصدمة على وجوه أعدائي! توقفتْ في مكانها وتركتني أتأمل عينيها دون أن تُبدي أي انزعاج. أردتُ أن أحتضنها فابتعدتْ، غمزتْ بعينها وأشارت لي بأن أتبعها. خرجنا من ذلك المتجر الذي يبدو من الخارج بحجم كابينة الهاتف ولكنه من الداخل رحب ويشبه مقرنا المحصن للمستشارية وقيادة الجيش في برلين.
لاحظتُ أن الضوء مُتقضب – يمتد في أعمدة كالقضبان - فنظرتُ إلى السماء ودُهشت، رحتُ أعدُ الشموس وأنا أتلفتُ إلى الجهات الأربع وأُعيدُ الإحصاء. كُنّ يلاحظنني ثم ابتسمن دفعة واحدة. قلت لرفيقتي مُشوَّشَاً: "هل ما أراه حقيقة.. وكأن الشموس يضحكن في وجهي!". سألتني: "هل حزرت عددها؟". قلتُ غير متيقن: "اثنتان وعشرون". اهتز رأسها بلطف: "أحسنت.. الشمس الثالثة والعشرون ستشرق بعد أن يفقس الفرخ من البيضة".
كنا نمشي في وادٍ مقفر، تربته صلصالية كدرة، فيه صخور وحصباء سوداء مع اخضرار يسير، وتحيط بنا جبال شاهقة جرسية الشكل بلون الباذنجان ينعكس عليها ضياء الشموس بتناوب يُشتتُ الانتباه.
بدأتُ أشعر بالراحة في ملابسي الجديدة التي تكيّفتْ لتناسب مقاييسي الجسدية. تجرأتُ وسألتها: "هل أنتِ التي سمعتُ صوتها يُناديني عندما ضغطتُ على زناد المسدس؟". توقفتْ عن المشي واستدارت لتواجهني: "لا.. الذي ناداك هو ملكنا المعظم شخصياً". حين جاءت سيرة الملك على لسانها توهّجت الألوان في حدقتيها بوميض أشد. توقفتْ (حواء) عند حجر مميز له مظهر هرمي وقالت: "هذا منزلك". أفلتتْ مني ضحكة ساخرة: "هذا.. هل تمزحين؟!". قالت وهي تدور حول الحجر الذي لا يزيد حجمه عن حبة ليمون: "أدخل يدك أو رجلك فيه وستشكر صاحب الجلالة المفدى الذي أنزلك في هذه المنزلة العظيمة". رفعتُ قدمي وهممتُ بوضعها على الحجر، سمعتها تهدل قائلة: "إقامة سعيدة". وما إن لمس باطن قدمي الحجر حتى وجدتُ نفسي في أرض غير الأرض التي كنت فيها. وعيتُ أني أقف على درب مرصوف بالذهب، في بستان مُشذب، يمتد مدّ النظر مكوراً كأنه كوكب. الهواء عذب غني بالأوكسجين، ومُضمّخ بشذى المسك والياسمين. السماء لازوردية باهرة الصفاء، يشعشع فيها نور آتٍ من خارج قبتها. مشيتُ وأنا أتأمل الجمال الذي يحيطني مبهوراً. الأشجار كلها بطولٍ مُوحّد، وكل شجرة تحمل ثماراً مختلفة عن الأخرى، والعشب مقصوص بعناية فائقة ويتموج تموجاً خفيفاً. التوت الجادة ولاح في نهايتها قصر فخم هرمي، تسطع منه ملايين الألوان التي تجلب السرور إلى قلب الرائي. سعيتُ نحوه وأنا مأخوذ بهندسته المعمارية، وقد غُطّي كله بالفسيفساء التي تكشّفتْ تدريجياً عن مناظر تحوي رموزاً كثيرة، ميزتُ من بينها الصليب المعقوف، وأرقاماً ربما لها علاقة بمتتالية "فيبوناتشي" وكتابات بأبجدية لا أعرفها، وصوراً لحيوانات برؤوس بشرية، وبشر برؤوس حيوانية، أحدها لمخلوق بجسد بشري ورأس ابن آوى، وهو ذلك الهُوْلَة الذي رأيته عياناً لمّا شخصتُ ببصري إلى السقف بالتزامن مع خروج الرصاصة من قحف جمجمتي. في أعلى الهرم قريباً من قمته، تعرّفتُ على صورتي! أعترف أن جسمي اجتاحته قشعريرة خوف آن وقعتْ عيناي على ملامح وجهي. كنت وسط حاشية تحف بعرش ملك يضع قناعاً على وجهه. تساءلتُ هل كان كل شيء مُعد سلفاً بما في ذلك أن أُصبح فوهرر الرايخ الثالث وأن أقوم بما قمتُ به تنفيذاً لمشيئة القدر؟؟ فهمتُ أني آتي وأضرب كلما حمي غضب الرب، وأني صنو "نبوخذ ناصر" مقلاع تُؤدّبُ به شعوب الأرض.
دخلتُ القصر ورحتُ أستكشفه. الجدران خضراء ملساء يُرى ما خلفها، وكذلك الأرضية خضراء مُحبّبة ودافئة. لا وجود مطلقاً للأثاث، وحتى الغبار لا وجود له، فالأروقة والحجرات تلمع من النظافة. فكرتُ أن هذا مسكن لا يلائمنا نحن البشر، لأننا نحتاج للسجاجيد والأسرّة والكراسي المريحة، نحتاج لأدوات المطبخ والسفرة والراديو والجرائد، نحتاج لمقتنيات لا أول لها ولا آخر لنشعر أننا بشر وعلى قيد الحياة! لا أعرف كيف يعيش هؤلاء القوم في قصور كهذه تخلو من وسائل الرفاهية والترفيه. كنت أريد الاحتجاج كنزيل فندق تعرض للخداع، فكرتُ ساخطاً حتى لو كانت هذه هي الجنة فإنها لا تطاق أكثر من خمس دقائق! أردتُ مرآة لأرى وجهي، لم أعرف كيف أتصرف للحصول على واحدة، تعكّر مزاجي وغدوتُ نزقاً فرحتُ أصرخ مُجدّفاً. فجأة ظهر هاتف مصنوع من الألماس يُحلّق في الهواء بلا شيء يسنده ولا سلك موصل به. رفعتُ سماعة الهاتف وضغطتُ على الرقم الوحيد المتاح "1". رد عليّ صوت ناعم لزج: "مرحباً، تمنياتنا لكم بإقامة طيبة". قلت بصوت كالرعد: "هل هذه هي الإدارة المسؤولة عن الجنة؟". أجاب الصوت الناعم: "نعم، أية خدمة؟". قلت بلهجة تتفجر صلفاً: "اسمع أيها الشاذ.. أنا اسمي أدولف هتلر، وأريد أن أبلغكم احتجاجي الشديد، الشديد للغاية، على رداءة الخدمات التي تقدمونها للنزلاء عندكم". كف الطرف الآخر عن ترخيم صوته وتكلم كجندي في طابور عسكري: "نحن متأسفون يا سيدي.. سوف تُلبى جميع طلباتك فوراً".
***
وُفّرتْ للسيد ذائع الصيت (أدولف هيدلر) ملايين الأصناف من الشوكولاتة والحلويات، ووُضعتْ تحت تصرفه حاشية مكونة من عشرة آلاف وصيف ووصيفة للعناية به والسهر على راحته. أُنشئتْ "أكاديمية الفوهرر للفنون التشكيلية" ونُصّب عميداً. مُنح جمهوراً يفوق سواده العشرة ملايين نسمة ليخطب فيهم خطبه القومية النارية. سُمح له ولأنصاره المتحمسين بطبع شعار الصليب المعقوف على الجدران والأرصفة، وكذلك رفع الرايات النازية على بوابات الفردوس، وغيرها كثير من أعمال البروباغندا، فتم التغاضي عن تجاوزاته.
استدرج الآنسة (حواء) إلى قصره المسمى "وكر الذئب" وعاشرها بالإكراه – لأن التلامس الجسدي في دار الخلد ممنوع - واحتجزها عنده ولم يسمح لها بالمغادرة البتة، وجرى التستر على فعلته.
قال إنه لا يستطيع أن يحيا بدون عراف، فأُرسل إليه العراف (سيلبا) ليكون تحت تصرفه. طلب كميات هائلة من البنادق والذخيرة والطائرات والدبابات والمدافع الثقيلة، فاستُجيبَ لطلبه دون أدنى تلكؤ. قام بإنشاء جهاز استخبارات "الجنة – ستابو" لرصد المتسللين غير
أسس وحدة خاصة "N.N" مهمتها تعقب الأجناس غير البشرية المصنفة ككائنات فضائية دُنيا، ووجّه باعتقالها في معسكرات سرية وإبادتها حرقاً في أفران الغاز، فلم يجرؤ أحد على فضحه.. بسط سيطرته على شبكات الاتصالات فوق الجلد وتحته "النيت والنوتيز" وبدأ يُحضّر للانقلاب. استشار العراف (سيلبا) مُعرباً عن نواياه بصورة مواربة، فقال إن في طالعه الفلكي علامة إيجابية عليه أن ينتظر ظهورها، وبيّن له أن الانفجار النجمي الذي سيحدث في كوكبة "شجرة الخلود" سوف يمنحه قوة لا حدود لها.
في التاريخ "المُعيّن" من قبل العراف، شن (أدولف هيدلر) هجوماً كاسحاً بالدبابات والطائرات على مقر الملك، واقتحم مليون جندي مسلحين حتى الأذقان القصر الملكي فلم يجدوا أدنى مقاومة. بعد تأمين المكان وإتمام السيطرة عليه، عبر (أدولف هيدلر) إلى قدس الأقداس بمفرده ومعه مسدسه الشخصي لا غير. بخطوة واسعة تعكس الجرأة ورجل صلبة تدق الأرض كالمطرقة، تقدم غير هيّاب وصدره بارز للأمام، ويده على جراب المسدس تحسباً لأيّ طارئ. لم يجد أحداً.. فتش المكان بدقة فوجد علبة زمردية شفافة بداخلها قصاصة ورقية.. عاوده الشعور المُنغِّص بالارتياب مرة أخرى، فرَدَ القصاصة المطوية وقرأ ما فيها.. اندلع من منخريه غيظ شديد، ضغط القصاصة في راحته بكل قوته ثم رماها، راح يركل العلبة الزمردية بجنون مُبعبعاً بكلام غير مترابط، وآخر الأمر أخرج مسدسه وعمّره وأولج فوهته في فمه وهو يلعن كل من شارك في المؤامرة، ثم ضغط على الزناد.
كُتب في السجلات أن هذه الحادثة ما إن تنتهي حتى تبدأ من جديد. يقولون هناك إنها دراما أبدية، ومع ذلك وفي كل مرة يُعاد عرضها تبدو أكثر تسلية وتشويقاً من سابقاتها.
* كاتب يمني.