هاني فحص مؤرخا يتأمل ظاهرة اجتماعية

06 ديسمبر 2015

فحص هو الفقيه العضوي في زمن تسيّس رجال الدين

+ الخط -


الحديث عن السيد هاني فحص يطول، يتشعّب تشعّب المسالك التي سلكها في مجالات الفقه والأدب والسياسة والاجتماع والتاريخ، ويتعدّد تعدد الموضوعات التي طرق أبوابها، وفلح في حقولها حرثاً وزرعاً وريّاً. نشاطاته ودعواته ومواقفه وانخراطاته في الميادين العامة تستجمع كل الصفات التي تؤول إلى إنسانٍ متعدد الأبعاد، مقابل الإنسان الموصوف بالبعد الواحد.
على أننا لسنا اليوم في معرض الحديث عن هاني فحص الإنسان، فقد نال هذا الجانب نصيباً كبيراً من الاهتمام في مناسبات عديدة، أحيت ذكراه، وكرّمت ما انطوى عليه وفاض من خلق ومزايا، هي بعضٌ من كثير.
هاني فحص الباحث، المُستحضَر اليوم والمثقف العام المُتذكَّر في خضم المحن، هو ما يبدو لي أنه موضوع هذه الجلسة المخصصة لمراجعة كتابه "الشيعة بين الدولة والاجتماع"، وفي بوتقة ما يراجع من كتبٍ بمناسبة قيام هذا المعرض، في زمن عربي وعالمي، تتلاطم فيه الأمواج والتيارات، والمؤسف أن تكون الأمواج أمواج دماء لا أمواج أفكار.
كيف نُعرّف هاني فحص، انطلاقاً من إنتاجه الفكري، ولا سيما من خلال كتابه المذكور الذي جمع فيه مقاربات متعددة؟ هل هو فقيه؟ هل هو عالم سياسة؟ هل هو مؤرخ؟ هل هو عالم اجتماع؟
يصعب التعريف الأحادي بالسيد، أي بواحدٍ من هذه الألقاب العلمية، إنه مزيج يأخذ من كل طرف من هذه البحور شيئاً، يستعين به لفهمٍ موضوعي لظاهرة اجتماعية، أو لحدث، أو لموقف أو لحالة من أحوال الناس والمجتمعات والدول. وأرجح أن هذا ما يجسّده بامتياز كتاب "الشيعة بين الاجتماع والدولة".
مقالات تنساب عبر التاريخ المعاصر والمعيش عن تاريخٍ مضى أو يمضي، لكنه تاريخ متأرجح في مضيّه بين ذاكرة جماعية قلقة وتأريخ لا يستكين إلى تاريخانية واضحةٍ حتميةٍ، أو إلى غائية منشودة مرتقبة أو مرسومة. إنه، هنا، مؤرخ، ولكن ليس بمؤرخ محترف.
مقالات في الاجتماع السياسي يكتبها قلم باحث اجتماعي، لكنه ليس باحثاً محترفاً، يتمترس بالتوثيق الأكاديمي وبالشواهد والاستبيانات، إنه الباحث المثقف. مقالات يكتبها أيضاً فقيه، ولكن ليس فقيه حوزة، أو فقيه مرجعية أو توكيل من مرجع. إنه الفقيه الحر، المتحرّر من قيود المرجعيات وحرفية التقليد، وإنه عالم الدين الباحث الدائم عن المرجع الصالح للعصر، وللوطن الكريم وللدولة العادلة، أي لإنسان هذا الزمن، ولمواطن هذا العالم وبلدانه ودوله.
بتعبير آخر ألخّص: إنه المثقف العضوي في زمن غياب الالتزام أو نهايته، وإنه أيضاً الفقيه 
العضوي، إذا جازت التسمية في زمن تسيّس رجال الدين واندراجهم في أحزابٍ سلطوية وغنائم سلطة، أي في زمن نهاية الإيمان، مقروناً بالعمل الصالح، وكما هو حال اقتران الإيمان بالعمل الصالح في عشرات من الآيات القرآنية، بل في كل آيةٍ يُذكر فيها الإيمان أو المؤمن.
في هذه العجالة من قراءتي كتاب "الشيعة بين الاجتماع والدولة"، أكتفي بإشارات دالّة على ما ذهبتُ إليه في توصيف السيد على أنه مزيج جميل وخاص وفريد من تاريخ وفقه وسياسة وعلم اجتماع.
مؤرخاً:
قرأت السيد، إذ يسعى إلى استخدام أحدث مفاهيم البحث التاريخي وفلسفة التاريخ. ففي هذا الزمن الذي انتعش فيه مؤرخو الطوائف، انطلاقاً من تأبيد ذاكرات الطوائف الجماعية، كعصبيات ثابتة، وجواهر قائمة بذاتها على صور ماضيها المُتكرر في جموده، يكتب السيد هاني في إشكالية كتابة التاريخ لماضي الشيعة ما يلي:
"نصاب منهجي مركّب، هو ضروري لتعادَ على أساسه قراءةُ الماضي، من دون أن تكون مظاهرُ هذا الوعي ومفرداتُه وصفةً ملزمة"، على أن وعي الحاضر – في الوعي التاريخي للسيد "إذا ما تم تحصيله وتكوينه بعافيةٍ، يشكل شرطاً مؤاتياً لاستشراف المستقبل بكل احتمالاته..."، وأول شرط التحصيل والتكوين "بعافية" "تجنب انحباس الذاكرة على نصٍ خطي واحد، لأن لمراحل التاريخ نهايات لا تقفل المرحلة على نفسها بالكامل، لكنها لا تدعها مفتوحة على كل الاعتبارات".
"شيعياً، على سبيل المثال، أصبح من المنطقي أن يتساءل الشيعي: إلى أي مدى تبقى الظروف والمعطيات التاريخية للعصر الأموي والعباسي والمملوكي والعثماني والفاطمي، والاستعماري حتى، صالحة وحدها لقراءة الحدث أو المسار أو السيرة الشيعية؟ كيف يمكن لشيعي أن يقرأ عاشوراء، مثلاً، على فرضية يزيد بن معاوية والحكم الأموي فقط؟ والأسئلة الآن وفي الغد، في أوطان الشيعة (...) أصبحت عابرة للتاريخ الخاص، وتتجه إلى عمومية إسلامية أو عربية أو مشرقية أو عالمية، لا تلغي الخصوصيات، لكنها تفتحها على أفقٍ أهم منها وأبعد مدى".
"إن ذلك يفضي إلى قراءة أخرى مدققة للمباني الفقهية والعقيدية، باتجاه استيلاد أحكام فرعية مطابقة لأصولها. ولكن ملامحَها وسماتِها المستجدة أكثر أهلية لملاءمة المستجد في شؤون المعرفة والحياة والاجتماع والسياسية" (ص71).

فقيهاً:
لم يتطلّع السيد أن يكون فقيهاً مجتهداً أو مرجعاً مقلّداً، لكنه درس إشكالية المرجعية وتعددها مع
قيام ولاية الفقيه العامة، في بلدٍ قامت فيه دولة إسلامية شيعية هي إيران. يضع هذه الإشكالية في سؤال مهم، "كم هي مسألة منهجية أن تختزل العالم بالفقيه والعلم بالفقه، هذا التساؤل هو استكمال للفكرة المؤسسية في المرجعية، بعد المستجدات الحياتية والمعرفية. فمن أين لنا أن نجد الشخص الفرد الملم بكل شيء، وقد تكلم علماؤنا باستمرار عن أهل الخبرة، وعن الأحكام والموضوعات. لذلك، إن من الواجب البحث في ضرورة أن يتكامل الفقيه والفقه بالعلم المدني على اختلاف الحقول والآفاق"... (ص32 – 33).
لكن الأهم أيضاً في موضوع المرجعية الدعوة إلى استمرار تعددية المرجعيات المقلّدة في العالم الإسلامي الشيعي، والتحذير من اختزالها تحت مظلة الولاية العامة الأحادية للفقيه.
وفي موضوع إشكالية العلاقة بين مفهومي الولاية العامة وولاية المرجع المحدودة، يرى السيد أنه عندما غلب البعد السياسي على البعد العلمي الديني في ولاية الفقيه، بعد وفاة الإمام الخميني (حيث اجتمع البعدان في شخصه ظرفياً)، أضحت ولاية الفقيه، عملياً، ولايةً سياسيةً تتذرّع بالدين، أي أنها تبحث عن ذرائع دينية، لجعل الولاية، وبهذا المفهوم العام، جزءاً من العقيدة. يلاحظ السيد هاني بثاقب نظر "إن الجهود تعاظمت وتضاعفت بعد الإمام الخميني، لتحويل نظرية ولاية الفقيه إلى أصلٍ من أصول العقيدة الشيعية" والتي يعني إنكارها الكفر أو الردة على الدين أو المذهب (ص94). ينتقد السيد هذا الاتجاه، مستشهداً ببعض المفكرين الإيرانيين، وفي طليعتهم عبد الكريم سروش، في أن هذا المسار من شأنه تحويل الحوزة الدينية إلى "حوزة دولة"، أو إلى "الدولة – الحوزة". وفي هذا التباس خطير في الأدوار، وخلط مسيء لأدوار الطرفين. فالحوزة مكان علمي ينتج معرفةً، والدولة مكان سياسي ينتج سلطة وتسويغاً، فلا يجوز التداخل أو التطابق بين الدولة والحوزة، لأن في ذلك قطعاً للحوزة عن وظيفتها المعرفية، ومصادرة لها ولدورها من قبل الدولة.. (ص95).
كذلك هو الأمر في موضوعة العلاقة بين الديني والسياسي، وبين الديني والمدني، يجد السيد في مقولة الشيخ محمد مهدي شمس الدين "ولاية الأمة على نفسها" بديلاً من ولاية الفقيه العامة، كما يجد في مفهوم "الدولة المدنية" الذي استخدمه الشيخ، صيغاً مناسبة لبدائل في العمل السياسي الإسلامي المتنور والمتقدم، لحفظ الدين ونجاح السياسة.
بل إن النتيجة المترتبة على هذا الفصل أو التمييز هي اعتبار المواطنة في الدولة، الأصل في بناء الدول/ الأوطان. من هنا، تأتي الدعوة الملحّة والضرورية لانخراط الطوائف ذات الخصوصيات في دولها الوطنية، وفي نسيج مجتمعاتها الأهلية والمدنية. كان هذا نداء الشيخ شمس الدين، في جولاته في الخليج، وفي مواقفه ودعواته اليومية، وكان هذا أيضاً نداء السيد، في محاضراته ومقالاته وكتبه، مع تأكيد دائم على أولوية بناء الدولة، وتحقيق شروط "الولاء الوطني" من خلال توزيع المسؤولية على الطرفين: الدولة والطائفة.
يقول في مقالة الشيعة والولاء الوطني: "عندما لا تريد الدولة في أي بلدٍ عربي، أو لا
تستطيع، أن تجمع مكوناتها المتعددة إثنياً أو دينياً، من خلال الالتزام بكونها جامعة لهذه المكوّنات... فإنها تدفع هذه المكونات، أو التي تهمّش منها، نحو العزلة... وتشجعها على إقصاء أو تعطيل المتغيّر الثقافي – الاجتماعي بالثوابت الطبيعية، ثم ترجيح الجامع السلالي العصبي على الجامع الوطني والقانوني". وبذلك، تدفع الدولة جماعاتها إلى الاستقواء عليها، أو الاستقواء بالخارج اضطراراً لضيق أو عجز...
وحتى بالنسبة للمقاومة، فلا يصح أن تكون مسوّغاً لعلاقة استقواء، ولا لحصر المقاومة بالشيعة. يقول "إن اختزال المقاومة في الشيعة، ثم في حزب الله من الشيعة، كان مشروعاً متفقاً عليه بين أطرافٍ غير لبنانية وبين حزب الله. وبهذا يفسر الكثيرون الحروب المعلنة والسرية التي جرت، من حرب المخيمات إلى حرب حركة أمل – حزب الله، بعد إلزام التيارات القومية واليسارية بالكف عن المقاومة" (ص55).
في الحالة الشيعية، يشرح السيد، بصراحة وموضوعية، ملابسات علاقة الشيعة العرب بإيران الدولة الشيعية، فيميّز في المنظومة الفقهية الشيعية بين المعرفة بالموضوعات من جهة وترتيب الأحكام عليها من جهة ثانية. فهذه المعرفة هي شأن المكلفين. يشرح السيد هذا التمييز كما يلي: هذا يعني "أن المسألة الوطنية اللبنانية أو الكويتية أو البحرينية هي شأن المواطن، لا شأن الفقيه أو الحاكم الديني، فالمكلف هو الذي يقدّر الأمور، لأنها مجال خبرته، بينما خبرة الفقيه تنحصر في الأحكام، وهذا هو نصاب المرجعية، فليس من شأن الفقيه أن يحكم بأن ما في الكأس خمرة، أو أن العلاقة بين الشيعي اللبناني ودولته يجب أن تقوم على القطيعة وعدم الولاء، بل شأن الفقيه أن يقول إن الخمرة حرام، وإن الرضا بالجور حرام، أما أن ما في الكأس خمرة أو ماء، أو أن هذه الدولة جائرة وتستحق المعارضة، فهذا ليس شأن الفقيه الإيراني أو العربي، وإنما شأن الجماعة الوطنية (...)، أي أن الموقف الشيعي الوطني أو اللاوطني هو خيار أفراد الشيعة، غاية الأمر أن يكون صائباً مرّة، وخاطئاً مرة أخرى. وفي كل الأحوال، يجب البحث وطنياً عن أسباب الصواب، وعن مسوّغات الخطأ التي لا تسوغ واقعاً، ولكنها تقتضي العلاج، لا الشتيمة أو التهمة" (ص57 – 58).

باحثاً في الاجتماع السياسي
نقرأه في العديد من مباحثه: في سلوكيات الجيل السياسي الشيعي، في إشكالية الديني والسياسي، في الجنوب والشيعة والثقافة المغيّبة، حول موقع الشيعة ودورهم في لبنان، سنّة وشيعة – مخاطر تأسيس الصراع، لكن الأبرز والأجرأ والأكثر صراحة مقالته عن "الدولة اللبنانية والدولة الموازية". يقرأ السيد، في هذه المقالة، تسعة شواهد على قيام هذه الدولة الموازية في الاجتماع السياسي والثقافي والتربوي والعسكري لدى حزب الله.
1- ففي الشأن التربوي، أصبحت للحزب مؤسساته المندمجة أو التابعة أو الرديفة أو الحليفة.
2- وفي المجال الاجتماعي والشبابي، من المستشفيات إلى مؤسسة الشهيد إلى كشافة المهدي إلى الأندية.
3- وفي المجال الديني للحزب مساجده وحسينياته ورجال دينه.
4- وفي الثقافة، للحزب منابره وجمعياته الثقافية ومنشوراته ومكتباته.
5- وفي العمل والتجارة والمهن الحرة والطلاب نقاباته التابعة وروابطه.
6- وللحزب إعلامه، تلفزيون المنار وإذاعاته المتعددة ومجلاته ونشراته.
7- وللحزب دورته المالية والإنتاجية من الحقوق الشرعية إلى الكفّارات والنذور، إلى مؤسسات الحج إلى صناديق الصدقة ودعم المقاومة، إلى مؤسسات الجباية في كل ديار الانتشار اللبناني، وصولاً إلى التمويل الإيراني.. الذي يمكن أن يوظّف في خط موازٍ للدولة.
8- قضائياً، للحزب حركته القضائية.
9- عسكرياً وأمنياً، لا داعي للتفصيل، يكفي كما يقول السيد اعتراف الدولة بهذا، أو "فرحها" بالتنسيق مع مؤسسات الحزب العسكرية والأمنية.
يتساءل السيد، هل يمكن أن يكون كل هذا نوعاً من التخصصية، أو من مؤسسات المجتمع المدني؟
يستبعد هذه الفرضية، لأن المجتمع المدني يقوم في إطار دولة متكوّنة وحديثة، بل هو فائض حداثتها، أما هذه الشواهد، فتجتمع في حيّز سياسي واحد، ذي صيغة طائفية، أو مذهبية، وفي لحظة ضعف الدولة واستضعافها وتقصيرها، واستيطان فكرة الجمهورية الإسلامية (التي قامت فعلاً في إيران) في النفوس معطوفاً، كما يقول السيد، على أن حزب الله زرع في الذاكرة طموحه إلى جمهورية إسلامية (دولة بديل) يوماً ما؛ وكل ذلك يضع الشواهد التي ذكرها السيد مجتمعةً في خطٍ موازٍ للدولة، مسكونٍ فرضاً، من غير أن نعدم الدليل بهاجس إلغائها في الحدود المتاحة، المفتوحة على حدود قصوى، ترسمها التطورات المحتملة في الاتجاهات كافة.
يقول أحد أعلام المدرسة التاريخية الحديثة، التاريخ ليس علم معرفة الماضي، بل هو علم البشر في الزمن التاريخي، والزمن التاريخي ماض وحاضر ومستقبل. ويرى محمد عابد الجابري أن المثقف، في الحضارة الإسلامية الكلاسيكية، كان الفقيه، فإذا جاز هذا الفرض في إسقاط معنى حديث على معنى قديم، فلا شك جائز أن نصف هاني فحص بـ"الفقيه العضوي"، مستأذنين غرامشي في هذه الاستعارة.
(مشاركة للكاتب في ندوة عن كتاب هاني فحص في معرض بيروت الدولي للكتاب)
5703B18D-69BA-425B-A9F0-0C8832DD94AA
وجيه كوثراني

أستاذ جامعي لبناني، وباحث في التاريخ والفكر السياسي، له عدة مؤلفات، منها "الذاكرة والتاريخ في القرن العشرين"، و"تأريخ التاريخ".