هاني زعرب: اللوحة وتحوّلاتها النصية

10 يناير 2016
("إرث"، 2009)
+ الخط -

يشكل معرض الفنان الفلسطيني هاني زعرب الأخير -"حب بجودة منخفضة " الذي اختتم مؤخراً في "غاليري برلوني" في لندن- في بنيويته انزياحات جديدة نحو الخارج، تأسست على تشاكلات وتضايفات وأنظمة استعارة وخلق مجازات بصرية ومعارضات أدبية مستحدثة شرعتها فلسفة اللوحة الما بعد حداثية في إطار تفكيكها لثنائيه الأصلي والمستنسخ.

فيستدعي زعرب، على سبيل المثال، لوحة "جثمان المسيح في القبر" للفنان الألماني هانز هولبن الصغير من القرن السادس عشر، وقارب الفنان الاسكتلندي المعاصر بيتر دويغ، وهما امتداد فكري لعمل زعرب السابق "عذراً لوسيان فرويد" (2013)؛ وتشكّل جميعها استدعاءات ومعارضات أدبية ذكية وساخرة تؤشر على فهمه للفن كبنية تاريخية لا تسير بخطوط مستقيمة بل كبناء دائري يتأسس على التعددية والتثاقف وهدم النصوص لخلق نصوص جديدة، تخدم المعنى وتفعل طاقة التلقي لدى المشاهد وتحوله من متلقي سلبي إلى مشاهد إيجابي ونشط يساهم في بناء وإنتاج المعنى.

إضافة إلى توظيف الفنان لإشارات بصرية أنتجتها الثورة الرقمية ووسائل الاتصال الجماهيري، كذلك القلب البشري ببنيته التشريحية... وهي توليفات وتشفيرات بصرية حملت شيئاً من الغرابة والدهشة والمفاجأة واللامتوقع في نظام الرسم أو الصورة التشكيلية.

إلا أن هذه الانزياحات أيضا في فعل الرسم كممارسة تفرض علينا تأثيراً يساهم في ترسيخ الروح الشعرية للنص البصري، كما يثير حضورها وتضايفها مع علامات استدعاها الفنان من أعمال عالمية سابقة أبعاداً دلالية وإيحائية جديدة، تؤسس لثنائيات بصيغ بصرية غير مستهلكة، الحياة مع الموت –الوطن والهجرة والحقيقة في مواجهة الزيف وغيرها.

تدفعنا تجربة زعرب بكل ما تضمنته من متحولات نصية إلى محاولة إسقاط لبعض الجوانب والمرتكزات المفاهيمية للمناهج النقدية، رغم اختلاف وتباين الأدوات ما بين الحقلين اللغوي-اللساني والبصري.

إلا أننا نلحظ انعكاساً لتلك المفاهيم في محاور ومعطيات بصرية تضمنتها تجربة زعرب الثرية فنياً وهو ما يزال في منتصف مشواره الفني، إذ خضعت إرهاصات الفنان في بداية مشواره الإبداعي إلى المعيارية السائدة سواء في سياق تأثره بالمفاهيم الأكاديمية أثناء دراسته الجامعية في وطنه فلسطين أو من خلال ما وفّرته المصادر العلمية المحدودة من مفاهيم مدرسية حديثة إلى جانب العزلة التي يفرضها الاحتلال على مشهدية الإنتاج الفني.

"حب بجودة منخفضة"، 240 × 200 سم


كانت أعمال الفنان الأولى ضمن التجارب البصرية بمعياريتها السائدة وهنا أقصد ما تروض عليه الذوق، فقد تبنى الفنان القالب التعبيري في فن الرسم في سياق خصائصه البصرية العامة، باحثاً فيه عن فراده وخصوصية، ولمطواعية هذا النمط من التعبير البصري في حقل التشكيل والإبداع عموماً، نظراً لارتباطه بوعي الفنان وعالمه الشخصي وخضوعه لمستويات الانفعال الذاتي إضافة إلى خصوصيه الأسلوب (بمعني الرؤية) في التعامل مع المكوّن البصري للعمل فضلاً عن طبيعة المحتوى والرسالة، كل ذلك ساعد في نجاح الفنان نسبياً في إنتاج لوحة تعبيرية عكست خطابه الفني ورسالته التي أراد.

وحتى انتقاله إلى فرنسا عام 2006، كان ذلك انتصاراً على العزلة بقدر ما هو رهان اشترطه الواقع الجديد بكل ما يحمله من متغيرات لفنان جاد وواثق بإرادته وقدرته على التجديد، فبدأ الانزياح الأسلوبي في تجربته منذ العام 2009 عبر مشروعه "درس في الطيران - انتظار" مغادراً نصوصه التعبيرية العاصفة بما تحمل من انفعالية وعفوية وانغلاق نحو الداخل عبر تهشيم البنى السطحية والعلاقات المادية وتقويض لزمكانية اللوحة، ليخطو نحو نصوص بصرية تضمّنت متحولات مناخية هامة وجادة في بنية العمل الفني اتسمت أكثر بالقصدية والدراسة الدقيقة والمحسوبة بل والمحوسبة للشكل.

"اطبع أيّ اسم"، أكريليك وزفت وأصباغ وألوان رش على قماش، 192 × 429 سم



وقد توّجت الانزياحية التي تجذرت في عمله "إرث" الذي شكل اتصالاً بصرياً وبنيوياً مع مشروعه السابق ذكره "درس في الطيران – انتظار" في نفس العام "2009"، إذ حمل هذا المشروع ملامح التحوّل البنيوي على صعيد الصورة التشكيلية التي أخذت تقترب من الخصائص البصرية للصورة الافتراضية المنتجة وبكثافة في عصرنا عبر وسائل الإعلام والاتصال الجماهيري، فعكست نصوصه الجديدة نوعاً من التشاكل البصري ما بين "الميديا" والفن التشكيلي الأمر الذي منحها هوية عصرية أكثر اقتراباً من وعي المتلقي المتدرب على تلك الصورة التي بدأت تشكل وبقوة وعيه البديل للواقع وفقاً لتعبير جان بودريار.

وهو ما قرّب تجربة زعرب من التجربة الغربية والعالمية على صعيد الشكل الجديد للوحة والمعالجة اللونية والشكلية للمفردات حيث أخذت الطاقة السحرية للصورة الافتراضية ووفرتها في عصرنا -العصر الذي أطلق عليه ريجيس دوبري في كتابه "حياة الصورة وموتها"، "الفيديو سفير" Videosphere- أخذت تساهم بإعادة تشكيل مفاهيمنا البصرية وبالتالي في إعادة تكوين فهمنا للرسم.

وهذا ما انعكس بملامح شتي في الكثير من التجارب الغربية منذ تسعينيات القرن المنصرم؛ تجارب ما بعد التعبيرية الجديدة كأعمال ماريو روسي وليديا دونا ودونيز غرين وجيريمي شارما وغيرهم، وكأن الرسم اليوم قد أخذ يطمح لأن يكون حالة من الصورة التي تفرضها لغة الاتصال الحديثة الأمر الذي أطلق علي إحدى مظاهره وتمثلاته الشاعر والرسام هنري ميشو تسمية "الرسم السينمائي".

ولعلنا نلمس تعالقات واضحة ما بين الصورة في لغة الميديا وما بين أعمال زعرب في تلك المرحلة من أوجه متعددة، فالمعالجة الشكلية واللونية للمفردة الواقعية للطفل (قدسي ابن الفنان) وزوايا الرؤية المنتقاة والتعبير عن الحركة وكذلك المبالغة في العلاقات المكانية والأحجام (كحجم الرصاصة والتعبير عن حركتها في إحدى أعماله) هي تناص شكلاني ما بين الرسم كنظام تعبير وما بين الصورة المنتجة كنظام تعبير رقمي.

وعلى الرغم من الدهشة والمفاجأة والغرابة واللامتوقع التي حوتها تلك الأعمال من حيث البناء المشهدي المخالف لفهمنا للرسم، إلا إننا نلمس بتلك المعالجة العصرية قدراً من الشاعرية في أعمال زعرب تلك الشاعرية والعاطفة التي تفرضها علينا الصورة في وسائل الاتصال الحديثة ومألوفيتها في نظام التلقي والاستقبال البصري.

"مدن مُقاوِمة"، أكريليك وزفت وأصباغ وألوان رش على قماش، 195 × 50 سم

ما يصنع خصوصية تجربة هاني زعرب قدرتها على بناء وتوليد أساليب وتراكيب مشهدية وبصرية جديدة تحمل انزياحات عن اللغة التشكيلية السائدة فلسطينياً وعربياً، وبذلك تنجح في تقديم حلول تشكيلية معاصرة وطرق تفكير باللوحة اليوم، وهو ما يكسب أهميتها في المشهد التشكيلي العربي. 

المساهمون