هاني درويش.. عزاءات المقالة المترعة

27 اغسطس 2018
(تفصيل من غرافيتي لـ بهية شهاب في القاهرة، 2012)
+ الخط -

بعد "إني أتقادم، مسارات شخصية في أحراش القاهرة" (2014)، صدر حديثاً عن دار "الكتب خان" في القاهرة، كتابٌ بعنوان "يوميّات الملل الثوري"، كثاني تجميع لمقالات الكاتب المصري هاني درويش (1974 - 2013)، يصدر بعد رحيله.

ثمّة حنين مُركّب في مطالعة كتابة درويش؛ فبحيوية الآني وإلحاح "اللحظة الفاصلة"، يتعامل الصحافي والناشط اليساري "المرتدّ" والمعروف بمحبّته لـ "التنظير" المطوّل في مقاهي وحانات وسط البلد مع موضوعات لم تعد مطروحة اليوم: مشارب ومصارع ميدان التحرير خلال ثمانية عشر يوما أودت بحسني مبارك، مثلاً، أو عدم استيعاب "الإخوان المسلمين"، إثر صعودهم إلى السلطة، ضرورة خوض "تطبيع طويل" مع أجهزة الدولة القمعية قبل "فرض استبداد فرعوني" سيُودي بهم هم أيضاً في غضون شهور.

إنه حنين إلى ضرب من الريبورتاج الأدبي نادر في اللغة العربية يُذكّرنا بأعمال الأميركي هانتر إس تومسون والبولندي ريشارت كابوشتشينسكي.

في مقالات الكتاب، نعثر على إيمان صادق بالنسق الديمقراطي- الليبرالي، إيمان ربما لم يفقده كثير من المثقّفين المصريّين حتى صيف 2013، حين صدمنا خبر رحيل هاني درويش المفاجئ. لكن هذا الإيمان يبدو اليوم بالغ السذاجة وقد كشفت الأحداث مآل كل "خناقاتهم" مع "تيّار ميت لم تحرّك الثورة فيه ساكناً"، هو اليسار؛ بفرز الولاءات والكشف عن الصراعات الفعلية على المدى الطويل. فلا الليبرالية نظامٌ قائم بمعزل عن الرأسمالية العالمية أحادية القطب (والتي تُغلّب المكسب على أي قيمة) ولا هي معادية للإسلام السياسي رغم تناقضها الفكري مع منطلقاته. مات درويش وهو لا يعرف أن الليبرالية في السياق "الثوري" المصري لم تكن إلّا حليفاً استراتيجياً لـ "المشروع الإسلامي" في مواجهة "المشروع القومي" المتمثّل في السلطة العسكرية.

ثمّة حنين أيضاً إلى حالة اشتباك دائم مع الواقع العام، لعلّها أهم "مكاسب الثورة" في الحقيقة، وقد سلبَنا إياها الاستقطاب والعنف ثم القمع الممنهج خلال فترة أقصر مما كان "مثقّف المقهى التسعيني" كما وصف نفسه ليتخيّل، رغم الملل الذي تحدّث عنه في مقال بعنوان "من يوميات الملل الثوري… حيث لا عزاء في كأس مترعة" في فبراير 2012: "الملل الثوري، سأكتب عنه كعَرَض دائم. مثلما كان الملل من الاستبداد مقيماً في الكتابة هنا لنحو 11 عاماً.

يبدو أن الملل وحده هو الدافع الحقيقي للكتابة، فالوجود المستقر العصيّ على خدش وقائعه هو موت للخيال. اعذرني أيها القارئ المنتظِر تحليلاً يُطمئنك على الثورة في مصر، هي بخير خارج هذا الكيبورد، لكن عليَّ الآن أن أُدمّرها".

ثمّة حنين إلى ذلك الاشتباك النقدي على حافة اليأس، ليس لأنه مريح في حد ذاته، ولكن لأنه يُذكّر بالمعجزة التي جَرّت "كاتب مكان" لاسياسي مثل هذا إلى معترك الصراع والمواجهة، كما كتب يوم 30 كانون الثاني/ يناير 2011: "خروج مئات الآلاف لم يكن يخطر إلّا في أذهان من اعتبرناهم مغفّلين، عشرات من الناشطين الذين هم على هامش واقعنا الافتراضي، سخرتُ منهم بتعليق كتبتُه في لحظة تعالٍ قبل ساعات. تهكّمتُ على (الغواية الشارعية)… كانت الهراوات المرتجفة طوال اليوم لا تصدّق أن فئة بنظّارة طبية وملابس (أفندي) تتطاول على مدرّعة بمدجّجيها من الغربان السوداء". يُذكّر أيضاً بذلك الخليط الخاص من الشِعر والنكتة الذي طوّره "جبرتي القاهرة المعاصرة" (كما سماه فادي العبد الله).

بحلول 2015، كان المجال العام قد صودر بالكامل. لكن الصمت والخواء الذي خُيّم على جلسات المقاهي كما على معارك فيسبوك ومباريات الاغتيال المعنوي كانا انعكاساً لما هو أخطر: عودة اليأس "التسعيني" المطلق من السياسة وسائر جوانب المجال العام، والاكتفاء بالشخصي والفردي من جديد. من هنا، تبدو الثورة في الذاكرة حلماً مزدحماً مرّ كالبرق. ويبدو هاني درويش الراوي الأمثل لذلك الحلم، بكل ما فيه من "معافرة" أسطورية مع واقع أثقل وأقبح من أن يتغيّر في حياة أي منّا. لكن عزاءنا فيه هو المقالات.

المساهمون