لم تكن الساعة قد تخطت الواحدة ظهراً حين هرعت الأم إلى حجرة هادي، لتوقظه فقد حان موعد الذهاب إلى العمل. ما إن دخلت عليه حتى وجدته يغط في سبات عميق محتضناً كراسة كبيرة عليها طلاسم غريبة لم ترها من قبل، نادت الأم ولدها ذا الستة عشر عاماً، وقد أخذت عنه حبيبته التى أوثقها بذراعيه ولم يكن ليفلتها، إلا أن أمه نادته "استيقظ فقد تأخرت عن فتح الطاحونة ولن نأكل اليوم خبزاً".
هكذا بدأ يوم الفنان الصغير هادي، وهو اختصار لاسم"عبد الهادي السعدي" وقد اعتاد أهل قريته التابعة لمحافظة الأقصر المصرية، أن ينادوه بهذا الاسم، تيمناً بهدوء طبعه ورزانة منطقه. كان ولا يزال ولداً خلوقاً وعاملاً مجداً وأيضاً فناناً موهوباً. يعمل هادي عقب الدراسة في طاحون القرية "مطحن القمح الآلي"، ويرجع مساء إلى حجرته ليرتمي في أحضان (الكمان). نعم، فعلى الرغم من صغر سن هادي ومسؤولياته الكبيرة، إلا أنه يحب الموسيقى، ويجتهد في دراستها وتنمية نفسه بنفسه، وعلى الرغم من أنه يعيش في قرية صغيرة تدعى "القرنة"، إلا أنه يحاول أن يثبت نفسه في مجال لا يعترف به أبناء هذه القرية، من الكادحين والباحثين عن لقمة العيش.
لم يلتحق هادي بعد بأيّ مدرسة أو معهد للموسيقى، فقط هي موهبة وطموح، ولا يملك سواهما، فهو من أسرة فقيرة الحال ومعدومة الدخل، توفي والده وهو في سن السادسة، ومنذ ذلك الوقت اعتاد الوحدة والميل إلى الموسيقى وتتبع النغمات القادمة من الراديو أو التلفزيون. يملك أذناً راقية ولا يملك ثمن كراسة الموسيقى.
ومن المفارقات التى أرهقت الفنان الصغير، أنه يعيش مع صوت الطاحونة لأكثر من أربع ساعات في اليوم، حتى أنه اعتاد أن يضع لثاماً على أذنيه صيفاً وشتاء.
كان هادي يخفي عن أمه حقيقة ميوله الفنية، إذ يعيش في مجتمع لا يعترف بمثل هذه الأمور، فمجتمع القرى في الصعيد دائماً ما يبحث عن العمل الجاد والبحث عن لقمة الزاد أينما وجدت، وحينما سألته أمه عن سر تلك الكراسة، صارحها بذلك.
اقرأ أيضاً:شيماء زيارة .. قصة نجاح آتية من غزة
كان يظن أن أمه سوف تعنفه أو تحقر من شأن ما يريد، إلا أنه وجد دعماً من والدته، وهو ما منحه الشجاعة في أن يطلب مساعدتها لشراء "كمان"، وما كان الولد أن يحلم بأكثر من ذلك.
فما كان من الوالدة إلا أن باعت قرطها الذهبي، من أجل منح صغيرها الأمل، واشترت له آلة الكمان.
قد يكون الصعيد مجتمعاً مظلوماً إلى حد كبير، من ناحية تجاهل الحكومات المتعاقبة على مصر لمساحة كبيرة وعدد سكان أكبر، فلا يوجد مرافق أو فرص عمل جيدة أو حتى مجالات ثقافية وتربوية، يستطيع الشباب من خلالها إبراز مواهبهم وطاقتهم، إلا أن الصورة ليست قاتمة، فقد عمد العديد من الشباب إلى التجديف ضد التيار من أجل الوصول إلى ما يشاؤون، وهو ما حدث بالفعل مع هادي.
سجل الشاب مقطوعات موسيقية من تأليفه وطلب من أحد أصدقائه نشرها على صفحات التواصل الاجتماعي، وبعد عام استطاع أن يحصد إعجاب أحد المهتمين بمجال الموسيقى، والذي وعد أن يساعده في الالتحاق بمعهد الموسيقى لمتابعة دراسته وصقل موهبته، إلا أن هادي لم يستطع حتى أن يسعد لمثل هذا الأمر فهو الآن رب الأسرة، لن يستطيع أن يسافر إلى أي مكان ولا حتى إلى الجامعة.
سوف يظل هادي حبيساً لطاحونة الدقيق نهاراً وحبيس أحلامه ليلاً، فمن ذا الذي سيمنح أمه الخبز ويجلب لها مصاريف أخته الصغيرة، سوف تظل ألحانه البسيطة حبيسة صفحة لا يعرف حتى سبيل الدخول إليها، لن يفرح إلا بعدد مرات الإعجاب التي تسجل عليها.
يقول هادي: الموهبة والطموح كلمتان خفيفتان على اللسان، كثيراً ما يرد ذكرهما على مسامعنا ونشعر معهما بعالم وردي مليء بالمغامرات والأحاجي الجميلة، بل وأيضاً، قد نشعر بنشوة النجاح والوصول إلى أبعد نقطة في العالم حتى ونحن لا نزال واقفين في أماكننا.
ويضيف: أنا لم ألعن ظروفي أو فقري أبداً، وواثق أن الله سبحانه وتعالى سيمنحني الفرصة يوماً لأكون شيئاً كبيراً.. هكذا علمتني أمي.
لم تكن قصة هذا الشاب هي الفريدة من نوعها في مجتمع تكبله الأعباء والظروف المعيشية الصعبة، هناك الآلاف من الشباب المبدعين في كافة المجالات، ولكنهم قليلو الحيلة تجاه عبقرياتهم والتي ستظل حبيسة لقمة العيش.
اقرأ أيضاً:"دعبس" للبحث عن المواهب في مصر