هؤلاء هم قتلى الثأر

04 نوفمبر 2014
+ الخط -
قبل بدايةِ الحرب الأهليّة، كانتْ البلدة الصغيرة تعيشُ حروبها الخاصّة، عقودًا من الزمن، بين عائلات خمس متناحرة. كان لكلّ عائلة حيٌّ وزعيم. وكان للزعيم رجالٌ يحوطون به ويرافقونه داخلَ منزلِه وفي تجوالِه، بينما كانت المسدّسات تتدلّى مكشوفةً من أحزمتهم.

لكلّ عائلة كنيستها وقدّيسها ودكاكينها ومحلاّتها ومقاهيها وحافلات النقل الخاصّة بها. حتى الزواج، غالباً ما كان يحصل بين أبنائها أنفسهم. عندما كان يسودُ الهدوء بين أبناء هذه العائلات، ويبدأ التقاربُ رويدًا رويدًا بينهم، سرعان ما تحدث جريمة قتل، فيعود الالتفاف مجدّدًا حول العائلة التي يَتعاضدُ أفرادها كما تتلاصق القطعانُ الخائفة. في بعض الأحيان، كان اللجوء إلى القتل ضروريًا لإحياء التكتُّل حول الزعيم، ولإعادة اللُّحمَة المهدَّدة بالانفراط.
 
جارتنا، كاترين، هي التي كانت تمسكُ بيدي كلّ صباح وتأخذني من حيّ "المَعاصر" حيثُ يوجدُ بيتنا، إلى مدرسة راهبات العازاريّة في الحيّ المتاخم لنهر "جوعيت" ولبساتين الليمون. تقعُ المدرسة قرب الكنيسة القديمة التي ترقى إلى القرن الثامن عشر وقد بُنيت كما تُبنى القلاع المحصّنة. لها بابان واطئان على شكلِ منحوتتَين بارزتَين لجهة الخارج، وقد تمّ تصميمهما بطريقة كانت تَحول، في الماضي، دون دخول الفرسان إليها بجيادهم. 

داخلَ الكنيسةِ العارية المتقشّفة يوجد مذبح من الحجر المصقول مغطّى بقطعة من النسيج تنسلّ من أطرافها خيطان صفراء مذهَّبة.

أمام هذا المذبح، كانت توضع التوابيت الخشبيّة التي سُجِّيَ داخلها قتلى الثأر. عندما يتزايد عدد هؤلاء، يَصُفّونهم في الباحة الخارجية، الواحد إلى جانب الآخر، وجميعهم لم يتجاوز الأربعين من العمر. 

كانت الرصاصات التي اخترقت أجسادهم تتوارى وراء الثياب التي يُلبسونهم إيّاها بعد موتهم وكانوا يرتدونها في العادة أيّامَ الآحاد والأعياد. البدلة رماديّة اللون في الغالب، والقميص أبيض. الذين لم يُطلَق الرصاص على وجوههم أو على رؤوسهم من الخلف، كانوا كأنّهم يستريحون على مرأى من الأهل والجموع.

تلك الجموع التي يدفعها الفضول إلى معرفة ماذا حلّ بأولئك الرجال الذين كانوا، منذ ساعات قليلة فقط، أحياء بين الأحياء، يتباهون برجولتهم ويُفاخرون بقوّتهم وعزمهم. 

تتحلّق النّسوة حول التوابيت، يرثينَ ويبكين. البكاء، هنا، علامة ضعف، وهو للنساء فقط لا للرجال. أمّا الرجال فكانت تَسوَدّ نظراتهم وتَغيم، يستشعرون الغضب وتغلي الدماء في عروقهم. وعندما كانوا يقتربون، بين الحين والآخر، من الأجساد المسجّاة ويصبحون على تماسّ معها، يتحسّسون مسدّساتهم بأيديهم، كأنهم يَعِدون الذين رحلوا بأن يطمئنّوا إلى ما سوف يأتي، وإلى أنّ موتهم لن يضيع. موت الثأر لا يضيع! 

النّسوة يرافقنَ طوال الوقت جثامين القتلى ولا يفارقنها حتى اللحظة الأخيرة. لا يفارقنها إلا في حالات الإغماء. لم تكن الأمهات يقبلنَ بحقيقة موت أبنائهنّ وما كنّ ليصدّقنَه، فَيُوَلولنَ ويصرخنَ بطريقة تبلغ أحياناً حدود الهستيريا.

ثمّ ينكسر الصراخ ويتحوّل إلى أنين. كأنّها سيمفونية من الأنين تنوء تحتها الآلاتُ التي تعزفها، تتشقّق بين أيدي العازفات وتنكسر. لكنّ الأصوات المنتحبة لا تتراجع إلاّ لتعود أكثر زخماً. فجأةً، يعلو الصراخ من جديد في كلّ مكان، صراخ الأمهات والأخوات اللواتي يحرّكنَ أيديهنّ ورؤوسهنّ يميناً وشمالاً.

بأيديهنّ يلطمنَها أحياناً تلك الرؤوس، ينتفنَ شعورهنّ ويمزّقنَ فساتينهنّ السود. يتحسّرنَ ويعتبنَ على القدَر. ينادينَ القتيل ويمغّطنَ في لفظ الأحرف التي يتألّف منها اسمه، لعلّه يرأف بهنّ ويصغي. لعلّه يفتح عينيه لحظة واحدة فقط. وحين لا يرأف ولا يصغي، يهززنَ أطرافه بعنف كأنما يتوسّلنَه أن يعود. حين تنهار قواهنّ، تتّسع المحاجر التي تكشف عن نظراتٍ زائغة، ترافقُ الغائبين إلى الجهة المجهولة التي يمضون إليها.

يسترخين على الأجساد الممدّدة ويبسطنَ أذرعهنّ بالكامل فوقها كأنّهنّ على الصليب، ويلصقنَ آذانهنّ بها في محاولة لاقتفاء نبضها الأخير. لا أدري من أين يستقينَ تلك القوّة الغريبة مع دنوّ اللحظة الأخيرة، فكنّ يتشبَّثنَ بحوافي التوابيت يمسكنَها بأيديهنّ ولا يقبلنَ بأن تتزحزح من أمكنتها. كان الرجال الموكَلون بنقلها إلى المقبرة يضطرّون أحياناً إلى أخذها بالقوّة وانتزاعها من بين أيدي الأمّهات كأنما يقتلعون جذوراً غليظة من باطن الأرض. 

هؤلاء هم قتلى الثأر الذين زيَّنوا طفولتي بزينة الموت. كنتُ أسمع والديّ يتحدّثان عنهم مع أصدقائهم في الأمسيات الطويلة. وحين أخرج مساءً من مدرسة الراهبات، كنتُ أنظر نحو الكنيسة الجاثمة بهدوء، وأفكّر في القتلى وفي النساء اللواتي كنّ نسمع نحيبهنّ وصراخهنّ فيما كنّا نلعب في حديقة المدرسة قرب تمثال السيّدة العذراء المحاط بأشجار الورد.

كنتُ أتخيّل أمّهات الشُّبّان المغدورين بعد أيام من رحيل أبنائهنّ. يسرّحنَ شعورهنّ ويرتدين الفساتين السود ويعشنَ أيامهنّ الباقية في غياب الذين رحلوا قبل الأوان. عندما تفرغ عيونهنّ من الدمع، تترك أثلاماً جافّة كأنّ سكاكين حفرتها، تمتدّ من المآقي وصولاً إلى أسفل الوجنتَين.


المساهمون