هؤلاء المحافظون الجدد في فرنسا

15 يونيو 2014

هنري ليفي .. عداء مبكر للفلسطينيين (1979 Getty)

+ الخط -
ما الذي بقي من الفلاسفة الجدد الفرنسيين؟
ليست الفلسفة بطبيعة الحال، فهذه مازلنا بانتظارها منذ عقود. بقي الاسم الذي فقد معناه الذي كان يحمله في الماضي. بقي الحضورُ الإعلامي الكثيف؛ والضجيج الذي هو أولاً سياسي، وفي الأصح، مواقف سياسية وتأثير سياسي بيّن. بقيت صورُهم مع الرؤساء، وفيها تصل إلينا رسالةُ أنهم في "قلب الحدث". وبقي الدرس الذي يمكن تعلمه من قصة هؤلاء الشبان الذي بدأوا (تقدميين) في أقصى اليسار، وانتهوا، كما كتب عنهم دانييل لندنبرغ، على مقاعد الرجعيين الجدد.
ثمة ما يمكن تعلمه كذلك. فعلى غرار أقرانهم المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأميركية، ولكن، بكفاءة أقل من الأخيرين، بدأ المحافظون الجدد الفرنسيون بماركسية مناوئة للستالينية، وانتهوا إلى صهيونيةٍ، تتماهى مع إسرائيل، وترى في الجنوب تهديداً وجودياً للحضارة الغربية. أما رُهاب الإسلام، فيمثل المادة المركزية لـ"تأملاتهم" في قضايا العصر. وحين أعلن المحافظون الجدد الأميركان استراتيجيتهم في "الحرب على الإرهاب"، وفي التعبئة من أجلها، لم يتردد نظراؤهم الفرنسيون، جميعهم، في الانتساب إليها، وفي رفع رايتها ضد المزاج الفرنسي العام، خصوصاً ضد الموقف الرسمي الفرنسي المناوئ لغزو العراق. سيشنون حملةً ضدّ الرئيس، جاك شيراك، ووزير الخارجية دومينيك دو فيلبان. سيكتبون المقالات والبيانات المضادة لسياسة بلادهم غير الأطلسية آنئذ. سيكتب أندريه غلوسمان، على سبيل المثال، كتاباً عنوانه (غرب ضد غرب)، يدافع فيه عن العدو المشترك للمسالمين والإسلاميين، أي الرئيس الأميركي، جورج دبليو بوش. يكتب في الكتاب إن موقف حكومة بلاده يحوّل التناقض إلى غرب/غرب، بينما هو بين غرب وجنوب، بين حضارة وبربرية. يجب تحرير الغرب من الغزو البشري الذي يجتاحه عن طريق الهجرة، وتخليصه، قبل ذلك، من الأفكار التي تسهم في إضعافه، وخصوصاً الأفكار المناصرة للسلام. كانت التناقضات، في الماضي، مع عدو خارجي بيّن الملامح. أصبحت اليوم مع عدو داخلي، مع آخر، يتعذَّر تمييزه، وهو هنا المهاجر القادم من الجنوب، وحليفه المُسالم الذي ينتصر إليه. ثمة عدو داخلي إذن. "عدو حميم"، كما قال ألان فنكلكروت في نوفمبر/تشرين ثاني 1989.

إذا نحينا اللغْوَ بخصوص الحضارة والديمقراطية والتنوير، لن نحتاج إلى جهد كبير، لكي نكتشف فكراً يرى في الأشياء جواهر ثابتة، وهُويّات راسخة؛ والترجمة العملية لذلك مناوأة البربرية الزاحفة على صورة هجرة تسبب انحطاط الغرب، وإسرائيل جزء من هذا الغرب المُهدّدِ بالمتوحشين، وخصوصاً بالمسلمين. أما الفلسطينيون، فسيحظون أيام الانتفاضة الثانية من هؤلاء (الفلاسفة) الذين ما عادوا جدداً، ولا فلاسفة، بهجوم قلّ نظيرُ عنفِه. سيقترح برنارد هنري ليفي في مايو/أيار 2002 على إسرائيل أن تفرض حلاً من طرف واحد: تضم ما تشاء من الأراضي الفلسطينية المحتلة في عام 1967، كي تتحرر من هذا السرطان الذي ينخر جسدَها الحبيب، وروحَها المعذبة. أما السبب فهو، كما يقول صراحة، أن تتحاشى إسرائيل خطرَ الوقوع في براثن مكروهِ الدولة ثنائية القومية. إن سلاماً تفرضه إسرائيل على الفلسطينيين من طرف واحد سيضمن لها مكاسب استراتيجية عدة، في ضربة واحدة. ستحرم الفلسطينيين من وضعية الضحية، الشعبُ ضحيةُ الشعبِ الذي كان، ويجب أن يبقى، الضحيةَ الممتازة. سيصبح الفلسطينيون شعباً كباقي الشعوب، وسيخسرون بذلك تضامنَ العالم، وتعاطفَه معهم كضحية. إن استمرار الوضع الحالي، كما يقول فنكلكروت، في مقابلة إذاعية في نوفمبر/تشرين ثاني 2003، هو استمرار للأمر الواقع، وهو "الانحدار المطّرد نحو الكارثة: كارثةُ الدولةِ ثنائيةِ القومية". 
***
مليئةٌ بالعبر قصّة هؤلاء (الرجعيين الجدد) بحسب تعبير لندنبرغ. فألان فنكلكروت وأندريه غلوكسمان، مثلاً، يتزايد تشاؤمهما وتبرُّمهما كلما تزايدت نجاحاتهما الإعلامية والمهنية وصعودهما الاجتماعي. في كتابه (الجحود)، يشن غلوكسمان، حرباً على مبدأ المساواة لأنه يلغي كل الفروق الممكنة، و"يُستنكرُ المتعالي باسم تساوي الأفراد والثقافات".   
ولا يتردد ألان فنكلكروت، عن الدفاع عن الاستعمار. فالمشروع الاستعماري، كما نقل مراسل صحيفة هآرتس (18.11,2005) على لسانه "هدف إلى نشر العلم، ونقل الثقافة إلى المتوحشين". نعم المتوحشون. هذه هي الكلمة التي استخدمها هذا "الفيلسوف" المفترض أنه يعرف تماماً مدلول مصطلحاته التي ينتقيها بعناية. غير أن ألان فنكلكروت انتخب مع ذلك، في أواخر شهر أبريل/ نيسان الماضي، عضواً في مجمع الخالدين (الأكاديمية). وقد أثار انتخابه لغطاً كثيراً لم تشهده الأكاديمية من قبل. سيعتبر المؤرخ ألان روسيو، هذا الانتخاب عاراً. وسيُحيّي الأكاديميين الاثني عشر الذين صوتوا ضد انتخابه، لأنهم "رفضوا هذا العار".
****
كثيرون هم الذين انتقدوا الفلاسفة الجدد، منذ كانوا مازالوا "جدداً". أشار الفيلسوف كورنيليوس كاستورياديس، إلى "غش فلسفي" يمارسونه؛ وكشف المؤرخان، جيرارد نوارييل وبيير فيدال ناكيه، عن مغالطات تاريخية، وعن وهَن في البحث والدرس. أما نقدُ الفيلسوف الكبير جيل دولوز (1925-1995) فما زال منذ نشرِهِ سنة 1977 راهناً، ويعاد نشره من غير توقف. من السخف أن يبدأ المرء بفلسفة خاصة به، يقول دولوز. هذا عبث وصِبيانيةٌ، لا تليق بالفيلسوف الحق. عليه أن يبدأ بدرس تاريخ الفلسفة، وبمحاورة النص الفلسفي ومساءلته. فلسفة الفلاسفة الجدد خاوية. وهو يرى سببين لهذا الخواء. الأول أنهم يبدأون بمفاهيم كبرى (السلطة، الثورة، القانون ..) تتيح إمكانية خلط الأشياء بشكل فج، وإجراءَ ثُنائيات مبتسرة وتعسفية. والثاني أن أفكارهم منتشرة، لأنها بالضبط خاوية من أي مضمون.
لم يغفر الفلاسفة الجدد لدولوز، أنه كان نصيراً للفلسطينيين. ولم يتوانوا عن مهاجمته حتى بعد مماته. سيقول برنارد هنري ليفي، في عام 2000 عن نص دولوز (عَظَمَةُ عرفات. 1984) إنه نصٌ مقرفٌ ينضحُ كَراهية.

 

دلالات
A15E2479-A86E-4FA5-9A8C-7C4CA1FB6626
محمد حافظ يعقوب

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في باريس. من مؤسسي الحركة العربية لحقوق الإنسان. يحمل دكتوراه الدولة في علم الاجتماع من جامعة باريس. نشر مقالات ودراسات بالعربية والفرنسية. من مؤلفاته بالعربية: العطب والدلالة. في الثقافة والانسداد الديمقراطي. بيان ضد الأبارتايد.