نيغول بزجيان: "تاريخنا تاريخ هجرات والحدود صنعت اللاجئ"

14 ديسمبر 2018
نيغول بزجيان: الهجرة جزء من شخصيتنا (الملف الصحافي للمخرج)
+ الخط -

عام 1992، بعد وقتٍ قصير على النهاية المزعومة للحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، عاد المخرج الأرمني نيغول بزجيان إلى بيروت، بعد إقامة أعوام عديدة في الولايات المتحدّة الأميركية (هو المولود في حلب)، حاملاً معه أول فيلم روائي طويل له بعنوان "حمّص": حكاية لبنانيين شباب آثروا الهجرة إلى لوس أنجليس، لبدء مرحلة جديدة لهم بعيدًا عن حربٍ أهلية وعنفٍ يومي وارتباكات شتّى.
بهذا، يؤسِّس بزجيان ـ المُقيم في ذاكرة الهجرات الأرمنية المنبثقة من مجازر العثمانيين بحقّ الأرمن، إبّان الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) ـ نمطًا سينمائيًا يمزج بين مسألة الهجرة وأحوال بيئة وانفعال أفرادٍ، في فترات عديدة من تاريخ وثقافات وبلدانٍ.

13 فيلمًا روائيًا ووثائقيًا مختلفًا أنجزها بزجيان في 26 عامًا، قبل تحقيقه مؤخّرًا وثائقي جديد بعنوان Broken Dinners, Postponed Kisses، الذي يُرافق فيه فنانين سوريين اختاروا، هم أيضًا، درب الهجرة إلى أوروبا، بسبب الحرب القائمة في بلدهم، وتحديدًا في مدينتهم حلب. فنانون ينتمون إلى جيل شبابي، ويجتهدون في سرد حكاياتهم عبر أعمالٍ وقصص وبوح، ويقولون شيئًا من تاريخ مشترك وراهن يجمعهم معًا في مسار ومصير. هؤلاء هم: الممثل أَيْهَم مجيد آغا والموسيقيّ آبو غابي والراقصة يارا الحصباني والرسّامة ديالا بريسلي والمُصوِّر الفوتوغرافي عمّار عبد ربّه، في حين أن جغرافية هجراتهم تتوزّع على برلين وباريس ونانت.

بالإضافة إلى الفنانين الـ5، يؤدّي فارتان مِغِرْديتْشيان دور مخرج يسعى إلى تحقيق فيلم وثائقي عن الهجرة والحروب، فإذا به يؤدّي دور نيغول بزجيان نفسه، المنسحب من أمام الكاميرا بهدف طرح أسئلة الفن والخيال والعلاقة بالماضي والذكريات.

في حوار "العربي الجديد" معه، يتحدّث نيغول بزجيان عن فيلمه الأخير هذا، وعن تاريخ حافل بالهجرات واللجوء، وعن ذكريات جدّته المنفتحة على ذاكرة جماعية.

(*) كيف نشأت فكرة الفيلم؟ 
ـ خلال أعوام عديدة، أنجزت أفلامًا مختلفة، ولاحظتُ أن المشترك بينها كامنٌ في وجود شخصيات تنتقل من مكان إلى آخر. شخصيات تسافر وتُغيِّر المدينة والثقافة والعادات واللغة. هذا عائد إلى أول فيلم لي، "حمّص" (1992): لبنانيون سافروا إلى لوس أنجليس، وبدأوا يتكلّمون اللغة الإنكليزية، ولديهم ذكريات، وصاروا يعيشون حالة جديدة وتجارب جديدة.

قبل فيلمي الأخير هذا، أنجزتُ فيلمًا عن لاجئين سوريين في البقاع بعنوان "شكرًا لكم، سيداتي، سادتي" (2015). رغم اختلاف الأوضاع والأسباب، ذكّروني بمسألة اللجوء وتكراره مع أناس كثيرين في أزمنة عديدة. أناس يبدأون حياة جديدة في ظروف صعبة. ذكّرني هذا كلّه أيضًا بجدّتي وذكرياتها، هي القادمة إلى سورية كلاجئة، هربًا من المجازر بحقّ الأرمن، زمن الحرب العالمية الأولى.

هكذا تطوّرت الفكرة. هكذا أنجزتُ فيلمًا عن اللاجئين المُقيمين في الفقر، والمحاصرين بالحرب الآنيّة. في الوقت نفسه، انتبهْتُ إلى أي مدى تقترب حكاياتهم الراهنة من القصص القديمة لجدّتي.

(*) هذه حالة تبدو كأنها دائمة: الهجرة واللجوء والانتقال من مكانٍ إلى آخر لأسبابٍ مختلفة. 
ـ نحن نعيش في منطقة تشهد حروبًا في كلّ جيل تقريبًا. كلّ 10 أو 15 عامًا، تندلع حربٌ، وتحدث هزّة عنيفة متأتية من ثوراتٍ أو تغيير حكومات أو أيّ شيء آخر.

هذا يجعلني أستعيد ذكريات جدّتي، فأعود معها إلى عام 1915 تحديدًا، وأفكّر كيف أن الهجرة واللجوء صارا جزءًا من شخصيتنا. نحن نهاجر دائمًا. هذا معروف. نحن نعيش في ذاكرةٍ مليئة باللجوء والهجرات، وهي ذاكرة كلّما تقوى، تصير جزءًا من شخصيتك وحياتك.

(*) لكنك الآن هنا، في جديدك هذا، تُقارب المسألة من خلال أفراد سوريين تحديدًا. 
ـ كنتُ أريد أن أحكي عن هذا كلّه، فقرّرت فعل ذلك عبر أناس يستطيع كلّ واحد منهم التعبير عن هذه القصص بطريقته الخاصّة. لكن الأمر أبعد من حالة محدّدة، فأنا أريد ما هو أوسع وأبعد وأشمل من مجرّد تغطية حرب حاصلة الآن في سورية أو العراق. لا أريد أن يرتبط فيلمي بحربٍ معينة. هناك حروب، وهي تؤثّر فينا وتغيِّر فينا وفي بلداننا منذ عام 1915، أي منذ أكثر من قرنٍ بقليل.

هكذا بدأتُ أبحث عن الشخصيات: تعذّبت كثيرًا قبل لقائي أشخاصًا جميلين وموهوبين. منذ البداية، قرّرتُ أن يكونوا فنانين. أحببتُ لقاء أناس حسّاسين جدًا، يمرّون بتجارب كهذه، ويُعبّرون عنها من خلال أشغالهم الفنية. لذا، لم يكن هناك مجال فني واحد، بل 6، والفن السابع لا يظهر لكن لديه حضورًا. يُقال إنّ السينما فنّ سابع. هكذا أدخلت شخصية المخرج.

كثيرون ساعدوني على لقاء هؤلاء الذين ظهروا في الفيلم. تعرّفت إليهم، والتقيتهم حيث يقيمون حاليًا، أي حيث يعيشون في بلدان الاغتراب واللجوء والهجرة التي اختاروها أو تمكّنوا من بلوغها.

(*) تقول إنّك منذ البداية قرّرت أن تكون الشخصيات عاملة في مجالات فنية. 
ـ كانت لدي فكرة، الآن أوضحها بكلمات، لكني كنتُ أشعر بها سابقًا. الخيار كان منصبًّا على فنانين يعطيني كلّ واحد منهم نوعًا فنيًا: صورة ولونًا وصوتًا وأشياء بصرية وسمعية تصنع السينما. هناك موسيقى وتصوير ورقص ورسم ومسرح: الممثل أَيْهَم مجيد آغا والموسيقيّ آبو غابي والراقصة يارا الحصباني والرسّامة ديالا بريسلي والمُصوِّر الفوتوغرافي عمّار عبد ربّه. بالإضافة إليهم، هناك ممثلّ (فارتان مِغِرْديتْشيان) يؤدّي دور مخرج أفلام وثائقية. هو وحده من دون الآخرين من يمارس مهنته كممثل في الفيلم، إذْ يؤدّي دور مخرج الفيلم، أي أنا. الآخرون يمارسون فنونهم أمام الكاميرا، أثناء التعبير عن حالة أو انفعال، وأثناء سرد القصص.

خلفيتي السينمائية روائية. لم يكن هناك موضوع موجود. ألاحق الموضوع لأصنع فيلمًا وثائقيًا. أخترع الموضوع. الروائيّ هو اختراع موضوع وإيجاد شخصيات وطرح أسباب.

(*) ولماذا هذا التنويع في الفنون؟ كي تصل إلى الفن السابع، أو لحاجة ما لديك إلى التنويع؟ 
ـ فكرة الفنانين مختلفي الاختصاصات الفنية حاضرة فيّ منذ البداية: التنوّع. هذا عائدٌ إلى كون المجتمع السوري بحدّ ذاته متنوّعًا: حضارات مختلفة ولهجات مختلفة. وأيضًا، أردت أن يكونوا قادمين من مناطق عديدة في سورية.

لا يوجد مخرجون أرمن كثر في سورية، وفي حلب تحديدًا. أنا لم أحبّ أن أكون في الفيلم. إذا وضعتُ نفسي كفنان مثل الآخرين وهم ينتجون فنونهم، عليّ أن أفعل أنا هذا أيضًا، مثلهم. أنا مخرج أفلام روائية أتيتُ بمن يؤدّي دوري. في البداية، أتحدّث معه أمام الكاميرا لأخبره المطلوب منه، ثم أنسحب من الفيلم. ربما أظهر لثانيةٍ أو أكثر بقليل، فقط لا غير.

(*) أيمكننا التحدّث قليلاً عن كيفية بناء الفيلم والاشتغال عليه، سينمائيًا؟ 
ـ في مسألة كهذه، تحضر الذكريات (أو الذكرى) بشدّة، ما يؤدّي بنا إلى التساؤل: هل الذكرى شيء حقيقي، أم أن المرء الذي يتذكّر يتخيّل أن الأمور حاصلة بالطريقة التي يتذكّرها فيها؟ الحقيقة والخيال يتداخلان.

أشتغل كثيرًا على هذا، ثم أخلط الوثائقيّ بالروائي. لماذا أنسحب من الفيلم؟ لا أحد يعرف. هل المخرج حقيقي، أم أنّه يؤدّي دورًا؟ المُشاهد سيتساءل عمّا إذا كنت أنا موجودًا في البداية، ثم يذهب برفقة المخرج/ الممثل في الفيلم. هناك أمر آخر: أن تصل إلى التساؤل عمّا إذا كان الفنانون الآخرون يمثّلون، أو يتخيّلون ذكرياتهم باستعادتها؟ أحاول وضع المُشاهد في الموقف نفسه الذي أعبّر عنه أنا كلاجئ أو كمهاجر، وأن أتساءل عمّا إذا كانت هذه الذكرى مهمّة جدًا، وعن كيفية انتقالها من جيلٍ إلى آخر.

أنا أعيش ذكريات جدّتي، لا تجربتها. ذكرياتها قوية إلى درجة أني صرت أخبرك إياها، فصارت معك. أنت تنسحب، والممثل أيضًا. هل تسمع الصوت فقط؟ أنا لم أتدخّل. أنا أسلّم الشخصيات وعليّ الانسحاب. لا أريد الـSuper Ego.

(*) لكن، كيف كانت العلاقة بينك وبين الشخصيات قبل التصوير؟ 
ـ تعاملت مع كل واحد منهم بطريقة خاصّة. قبل هذا، اجتمعت بهم وتحدّثت معهم طويلاً عبر الهاتف. تعرّفت إلى شخصياتهم جيدًا، ثم نسّقت معهم. تحدّثنا عن الشغل وعن الموضوع وعن الفيلم، وعمّا أريده ولا أريده. تحدّثنا عن الأساسيات. أخبروني قصصهم الشخصية، ثم قرّرت ما الذي سنرويه. هم لا يعرفون بعضهم. هم ليسوا أصدقاء. كلّ واحد منهم لا يعرف من الذي يسبقه في الفيلم ومن الذي يلحق به. كلّ واحد منهم لا يعرف ما قاله السابق عليه وما سيقوله اللاحق به. كنتُ آخذ شيئًا ما من كلّ واحد منهم بطريقة تسمح بأن يزيد من يتحدّث أمام الكاميرا على ما قاله السابق عليه، ويستند إليه اللاحقُ به. هم ينتمون إلى أجيال مختلفة. كلّ واحد منهم يتحدّث عن فترة معينة خلال الـ100 عام التي أتناولها أنا.

قبل التصوير، التقيتُ بهم ليومين متتاليين، وتجوّلت معهم في المدن الجديدة التي يُقيمون فيها، وزرتُ برفقتهم الأمكنة التي يحبّونها ويرتادونها. شيئًا فشيئًا، تعرّفت على هذه القصص. معًا، اخترنا الأمكنة التي نصوِّر فيها، فهم كانوا يقترحون عليّ أحيانًا تلك الأمكنة.

باختصار، أقول لك: كانت العلاقة جميلة، خصوصًا أني عملتُ على راحتهم.

(*) المعروف غالبًا أن كثيرين يتغيّرون أمام الكاميرا، ربما بسبب الرهبة أو القلق أو عدم الاعتياد أو الخوف.
ـ لهذا، آخذ وقتًا طويلاً للتصوير. لكلّ واحد منهم هناك ما بين 14 و16 دقيقة، نصفها مواد بصرية لا كلام فيها بل صُوَر. مدة الكلام 8 دقائق أو أقلّ. هذا كلّه يتمّ في 4 أو 5 أيام تصوير. هذا يُريحهم. كانوا كأنهم يعملون معي. كانوا يشاهدون ما أصوّره. أحبّ إشراكهم معي في تحقيق الفيلم.

أتحدّث الآن هكذا. لكن، كانت هناك صعوبة على مستوى الإنتاج. لم يكن هناك تمويل. قدّمت ملف المشروع إلى مؤسّسات كثيرة رفضته كلّها. ربما لأن لا موقفَ سياسيًّا في الفيلم، فأنا لا أتّخذ موقفًا مع أي جهة سياسية، لأن هدفي يكمن في تحقيق فيلم إنساني لا سياسي. فيلم عن أناس مرّوا في ظروف صعبة أو يمرّون فيها الآن بسبب حروب. لذا، منذ البداية، قلت للجميع بشكل واضح: لا سياسة ولا أطراف/ جهات. هذا ليس مشروعي. أريد فقط قصصًا بسيطة وقريبة من حياة كلّ واحد منهم. لا صُور حرب في الفيلم، ولا صُور دمار وانفجارات ودماء. هذا كلّه يراه المُشاهد في الأعمال الفنية للشخصيات لا بواسطة الأرشيف. الحرب وقصصها بعيدة عن الفيلم، لكننا نتناول تأثيراتها وما بعد تأثيراتها.

هذا مهمّ. التجربة صارت جزءًا من شخصية الفنان، فكيف يشتغل الفنان ليُظهرها في فنّه؟ هذا هو المُراد.

الفيلم بعيد من السياسة وأهم منها. إنه ضد العنف والعنصرية والحرب. يميل إلى الناس. يُثير أسئلة عن الانتماء والوطنية ومعنى "الأمة الدولة" المنكسرة حاليًا بعد 300 عام على وجودها. عن إقامة الحدود واللغة وجوازات السفر. الهجرات تاريخية وعادية. منذ 100 عام، لم تكن هناك حدود، وعندما انوجدت الحدود صار هناك لاجئون. الناس يهاجرون بشكل عادي من أجل مأكل وعيش، ولما أُقيمت الحدود صاروا يُعرفون كلاجئين.

(*) أودّ العودة إلى الجانب السينمائي في اشتغالك. 
ـ المُلاحظ في أفلامي الأخرى أني، عندما أجري مُقابلة مع أحد، لا "أقطع" حديثه. هو يحكي، وعندما ينتهي من قول ما يريد، أوقف التصوير. هذا يعطي مجالًا واسعًا للشخصية كي ترتاح، وللمُشاهد كي يتعامل معها كإنسان: كيف يفكّر ويعيش على الكلمات. أنا لا أصنع فيلمًا وثائقيًا كلاسيكيًا. هذا بدأ معي منذ فترة طويلة.

أرتاح إلى هذه الفكرة. قديمًا، كانت البكرة تحتوي على 10 دقائق. الآن التقنيات مختلفة. أترك الكاميرا تعمل، وليسرد الشخص حكايته بكلماته وعلى سجيته وبشكل مريح له.

أحبّ أن أشتغل كأني أكتب شعرًا: لحظات وتفاصيل. أصوِّر كثيرًا لأني أفكّر بالمونتاج حيث "أقطّع". لذا، أجمع صُوَرًا كثيرة لتكون لديّ مواد أشتغل عليها. في المونتاج، لا أقطع بـ"الكلمة" بل بصوتٍ ولونٍ، وبحركة الكاميرا، وبمضمون الصورة. هذه أمور أهتم بها كثيرًا.

في الفيلم، لا تشعر بكيفية الانتقال من شخصٍ إلى آخر، ومن مكان إلى آخر. رغم أنّ لكلّ واحد منهم شخصية مستقلّة. لكن، إجمالًا، وبالنسبة إليّ وإلى الفكرة العامة التي تجمع الشخصيات كلّها، هناك ما يربطهم معًا. طريقة تركيبه وتقطيعه متماسكة جدًا. إذا حذفت شيئًا منه ينهار كلّ شيء. الشخصيات غير متشابهة، لكنها تلتقي عند ما أسعى إليه. يقولون ما أريد البحث عنه كموضوع.

المساهمون