نور القدس

02 نوفمبر 2015
لوحة لكمال بُلّاطه، معرض "وكان النورُ"، لندن 2015
+ الخط -
قبل خمسة وعشرين عامًا، أراد متطرفون إسرائيليون من "أمناء جبل الهيكل" وضع حجر الأساس للهيكل المزعوم في المسجد الأقصى، فهبّ المقدسيون دفاعًا عن مدينتهم. أتى العسكر الإسرائيلي وبدأ زخّ الرصاص، فقُتل يومها (10 أكتوبر/ تشرين الأوّل، 1990)، ثلاثة وعشرون فلسطينيًا، وسمّي ذلك النهار بـ مجزرة الأقصى الأولى. من بين الناس ذاك النهار، نجا فيصل الحسيني من رصاصة غير طائشة، مرّت قرب رأسه. إذ لم يكن هذا الرجل المتفائل والمبتسم غالبًا، يرى لنفسه مكانًا طبيعيًا إلا بين الناس ومعهم. 


اقرأ أيضًا: لك يا منازلُ


لكن تلك الحادثة أثّرت في نفسه، فكتب يومها دعاءً صلاة، جاء فيه: "اللّهمّ إنّا أردنا بيتاً لشعبنا يلمُّ شتاته، ولم نسعَ لتدمير دول الآخرين ولا لهدم بيوتهم". ففي هذه الجملة البسيطة ظاهرًا، مقابلة عميقة بين فلسطين وإسرائيل، بين الضحية والاحتلال.

وقد حاز الحسيني مكانته في القلوب بسبب صدقه في العمل والبذل لمدينته القدس، ولوطنه فلسطين. سخّر فيصل معرفته كلّها لـ بيت الشرق، ذاك البيت الحجري المقدسي الذي بدأ من الفكر والثقافة والترميم والتوثيق والتدوين، من خلال أولًا جمعية الدراسات العربية، ثم صار رمزًا لوجود الفلسطينيين في مدينتهم المقدسة، ونواة لحضورهم القوي، من خلال نشاط فيصل السياسي وعمله الفذ.

اقرأ أيضًا: سليم تماري، سير المغمورين تكشف النسيج الاجتماعي لفلسطين

أمورٌ لم تعجب الاحتلال بالطبع، فلم يكفّ عن التفنّن في المنع والقهر والمصادرة، وصولًا إلى إغلاق بيت الشرق إغلاقًا نهائيًا، ثم الاستيلاء عليه، بعد فترة بسيطة من وفاة فيصل الحسيني في الكويت (أثناء زيارة رسمية)، عام 2001.

يتذكر المقدسيون جنازة فيصل الحسيني، وكيف التفّوا حول جثمان الرجل البهي، حدّ قيل إن القدس تحرّرت ذاك النهار، فاختفى الاحتلال من كلّ شيء، وساد النور المقدسي في سماء المدينة. ووري فيصل الحسيني ثرى باحة المسجد الأقصى، ذاك المكان الطاهر المرتبط بمقاومة الاحتلال. فيه يجتمع المقدّس بالجمال، ولا تكفّ الرموز عن التوالد والإيحاء، إلا أن في جنباته ما هو أوسع من قباب ومآذن ومحراب صلاة، فيه طريقة حياة وإصرار، إذ ليس لدى المقدسيين مروحة خيارات، في ظلّ التهويد المنظّم الوحشي الذي تتعرّض له مدينتهم، وفي ظلّ سنّ "قوانين" عنصرية تشرّع للمحتل تهجيرهم وطردهم بصورة "رسمية" و"حديثة"، كما جاء في تصريحات بنيامين نتنياهو الأخيرة الرامية إلى تجريد المقدسيين من حقهم في الإقامة بمدينتهم، عبر سحب ما يُعرف بـ"البطاقة الزرقاء" منهم.

ولم يبقَ تقريبًا موضع في القدس أو مكان، لم تنبش فيه إسرائيل، باحثةً من دون جدوى، عن أثر"أركيولوجي" لوجودها. فحفرت أنّى استطاعت إلى ذلك سبيلًا، من أجل تغيير معالم المدينة، ونزع الطابع العربي عنها، عبر وسائل شتى، منها الاستيطان ومصادرة البيوت والأراضي، وقطع التواصل بين الأحياء وتحويلها إلى بقع متناثرة مبعثرة.

إذ لم تكف إسرائيل منذ عام 1948، عن طمس معالم القدس العربية، والاستيلاء على ما فيها من حجرٍ ومعنى، ولا عن التنكيل بأهلها، لدفعهم خارجها وخارج فلسطين. البيوت الحجرية المقدسية، المنضوية بسلاسة تحت العمارة المشرقية في بدايات القرن العشرين، والناجمة عن امتزاج موفّق بين المحلي والمستورد، ستزيّن غير ما كتاب إسرائيلي، باعتبارها جزءًا من إرثهم المعماري. إلا أن الأحياء العربية التي سلختها إسرائيل عام 1948، كالقطمون والطالبية والبقعة وغيرها، لا تنفصل جوهريًا عن الأحياء التي سلختها عام 1967، فالحجر يخبّر القصة.

هكذا تظهر الوشائج وثيقة بين بيت الشرق، وأي بيت حجري آخر في القدس، فالحجر يخبّر القصة.

الحجر المقدسي المميّز بلونه وانعكاس الضوء عليه، سيزور غير ما قصيدة ورواية وقصّة فلسطينية. إلا أن تدرّجات النور عليه، ورتبات الضوء المشعّ منه، ستبقى كلّها محفورة في ذاكرة ضيف ملحق الثقافة لهذا العدد، الفنان الفلسطيني كمال بُلاطّه.

نورٌ وضياءٌ وشعاعٌ وضوء، مفردات تنتقل من القاموس إلى العين، وتبهر الإحساس، في معرض كمال بُلاطّه الأخير، "وكان النورُ" في لندن. وإن كانت وفرة الألوان في اللوحات، وصرامة هندستها، وقوّتها في التجريد، تحيل كلها على حسن التكوين وصلابته، إلا أن ذاك الشعاع الذي يمرّ من لوحة فأخرى، يتلألأ ويوحّد بينها، ويشفّ عن أمر آخر؛ انعكاس الضوء على حجر مقدسي، فيبزغ منه نور ليس إلا نور القدس.
دلالات
المساهمون