يختزل نهر بردى، الذي تدور في قرى الوادي الذي يمر فيه، مواجهات بين قوات النظام السوري وحزب الله من جهة، وأهالي المنطقة والفصائل العسكرية فيها من جهة أخرى، تاريخ دمشق الحديث، وقصة العداء بين نسبة كبيرة من الشعب السوري، ونظام الأسد الحاكم، بشقيه، الأب والابن. فالنهر الذي يعد أحد أبرز رموز دمشق التاريخية، شاهد على حجم التشويه، الذي طاول حياة السوريين في ظل حكم عائلة الأسد، حتى تحول من أحد أهم معالم الحياة، إلى جيفة تُزكم روائحها أنوف المارة قرب ضفافه في مناطق عدة في العاصمة دمشق.
ويتذكر كثير من الدمشقيين نهر بردى حتى بداية السبعينيات، حين كانت مياهه تفيض في مواسم الأمطار وذوبان الثلوج، وحين كانوا يتنزهون على جوانبه بقية أيام السنة، فيما يُسمى "السيران"، الذي يُعد تقليداً ثابتاً لدى العائلات الشامية. وكانت ضفاف نهر بردى، وبساتين الغوطة مقصد "السيران" المفضل لدى تلك العائلات. غير أن النهر تعرض إلى الإهمال، بالإضافة إلى التهاون في التعامل مع التجاوزات الفاضحة على مناطقه ومياهه من جانب أصحاب المعامل والمطاعم، الذين يلقون فضلاتهم في مياهه، فضلاً عن الإجراءات الخاطئة والمستهترة من جانب السلطات، مثل تحويل مياه الصرف الصحي لدمشق وريفها إلى النهر، وإكساء مجراه بالحجر والإسمنت و"البلاط" لاحقاً حين يمر من العاصمة، وإغلاق بعض قنواته أو حرف مسارها لاعتبارات أمنية، خصوصاً في منطقة المهاجرين، مكان إقامة رئيس النظام. كل ذلك فاقم من محنة النهر، وحول مياهه العذبة إلى مياه آسنة تستجلب الحشرات والأمراض.
وحسب الدراسات الرسمية، التي أجريت أواخر عام 2013 من قبل وزارة البيئة التابعة للنظام السوري، والتي اعتمدت على عينات مأخوذة من مياه النهر، فإن منسوبه "منخفض، حتى تحول إلى ساقية مليئة بالأوساخ الصلبة الواضحة للعيان. كما تطفو بعض المواد الصلبة على سطح المياه وتظهر فيها الطحالب". وخلصت الدراسة إلى أن مياه فروع نهر بردى "تصنف على أنها عديمة الجودة، وفائقة التلوث والخطورة على الإنسان والبيئة، وعديمة الصلاحية". وقال مدير الموارد المائية في دمشق وريفها، باسل الغفاري، إنه "بعد عين الخضراء، فإن مياه نهر بردى غير قابلة للشرب، والنهر بعد ذلك عبارة عن مياه صرف صحي، وتعتمد دمشق حالياً، للحصول على مياه الشرب، على نبع الفيجة بالكامل".
وينبع نهر بردى من نبع غزير جنوبي بلدة الزبداني في سلسلة الجبال السورية شمال غرب دمشق، ويسير متعرجاً بضعة كيلومترات حتى مزرعة التكية، إذ يدخل في واد عميق شديد الانحدار يعرف باسم وادي بردى، والمكون من نحو 13 بلدة ومصيفاً، هي سوق وادي بردى، برهلية، كفر العواميد، الحسينية، كفير الزيت، دير قانون، دير مقرن، عين الفيجة، بسيمة، أشرفية الوادي، جديدة الشيباني (أو الوادي)، الهامة، دمر، بالإضافة إلى قرية عين الخضراء، التي تكثر فيها المنتزهات والفنادق والمطاعم والمقاهي وأماكن النزهة الشعبية (السيران)، قبل أن يدخل منطقة الربوة بجانب سكة القطار وطريق المصايف، ويدخل إلى دمشق مخترقاً المدينة وصولاً إلى الغوطة المحيطة بالمدينة ليروي بساتينها. وعند الربوة يتفرع من النهر ستة فروع. وعن يساره هناك نهر يزيد الذي يخترق شمالي الهامة، ويمتد إلى أعلى المهاجرين قبل أن يصل مدينة دوما في الغوطة الشرقية، ونهر تورا الذي يتفرع منه بين دمر والربوة، ويجري على طول خط أسفل المهاجرين والصالحية وصولاً إلى جوبر ومنها إلى دوما أيضاً. وعن يمين النهر تتفرع قنوات المزاوي، الديراني وبانياس مرتبة من المستوى الأعلى إلى الأدنى في الجريان، وتعبر هذه الأنهار الصغيرة، أو الأقنية، منطقة الربوة على مناسيب مختلفة، ثم تتباعد على شكل مروحة، تغطي جميع أحياء مدينة دمشق. وبعد خروجها من دمشق، تنتشر في جميع مناطق غوطة دمشق، مشكلة شبكة ري الغوطة.
وفي مجرى النهر عند وادي بردى، هناك عدة ينابيع ترفده، أهمها نبع عين الفيجة الذي يضاعف في غزارة وحجم مياه بردى. ويخترق المجرى الأصلي لنهر بردى، دمشق والغوطة في اتجاه الشرق والشمال الشرقي، حتى يصل إلى بحيرة العتيبة شرقي العاصمة بعد أن يكون قطع نحو 65 كيلومتراً. أما داخل المدينة، فيتفرع عن المسرى الأساس لنهر بردى قناة العقرباني عند منطقة المرجة، وتصل إلى أراضي جرمانا وعقربا وبيت سحم، وقناة الداعياني عند باب توما، وتروي بعض أراضي الغوطة. كما تغذي النهر مجموعة من الينابيع، تشكل أنهاراً صغيرة ترفده بما يتبقى من مائها مثل عين حاروش عند بلدة دير العصافير، والأشعري شرقي قرية حمورية، وعين القلايا جنوب قرية المحمدية.
ما يجدر ذكره إن جميع الأنهار أو القنوات التي تتفرع عن النهر، اصطناعية، وقد قام الإنسان بشقها على مر العصور، لتأمين مياه الشرب والزراعة لدمشق ومحيطها. وبهذا المعنى تعتبر من أقدم شبكات الري في العالم، إذ يمتد تاريخها إلى آلاف السنين وصولاً إلى العهد الآرامي. وبانياس هي أولى الأقنية وأقصرها، وكانت تمد المعبد والمدينة الأصلية بالمياه، بينما تعتبر تورا القناة الثانية، وهي لا تزال تحمل الاسم الآرامي نفسه (ثورا) ومعناه صيد السمك. وخلال الحكم الإسلامي تمَّ حفر بقية الأقنية، حتى أصبح عددها ست أقنية، سابعها بردى، ومنها قناة يزيد نسبة إلى الخليفة الأموي يزيد بن أبي سفيان.
ومنذ القدم، ارتبط اسم نهر بردى بمدينة دمشق، وكان له أثر كبير في حضارة المدينة عبر العصور، وتغنى به العديد من الشعراء قديماً وحديثاً، وذُكر في الكثير من المراجع التاريخية.
ويذكر المؤرخ ابن عساكر أن نهر بردى كان يعرف قديماً باسم نهر "باراديوس"، أي نهر الفردوس أو الجنة. وشهدت ضفافه أحداثاً كثيرة هامة منذ فجر التاريخ، وتحمل اسمه عائلات كثيرة في سورية ولبنان والمغرب والولايات المتحدة والأرجنتين وفرنسا.
كما تغنى الكثير من الشعراء بنهر بردى منذ قديم الزمان، ومن ذلك قول الشاعر حسان بن ثابت:
يسقون من ورد البريص عليهم بردى يصفق بالرحيق السلسل
وكذلك قول الشاعر جرير:
لا ورد للقوم إذا لم يعرفوا بردى إذا تجوب عن أعناقها السدف
كما جاء ذكره في شعر أبي عبد الله محمد الأصبهاني بقوله:
ومن بردى برد قلبي المشوق فها أنا من حره مستجير
وجاء ذكره أيضاً، في قول ذي القرنين أبي المطاع بن حمدان حين قال:
سقى الله أرض الغوطتين وأهلها فلي بجنوب الغوطتين شجون
ومن الشعراء الذين جاء ذكر بردى في أشعارهم، أمير الشعراء، أحمد شوقي، وذلك في قصيدته التي ألقاها في حفلة أقيمت لإعانة منكوبي سورية في عام 1926 :
سلام من صبا بردى أرق ودمع لا يكفكف يا دمشق
أما شاعر دمشق، نزار قباني فقد أنشد قصائد حبه وغزله في دمشق وعلى ضفاف نهرها الخالد. وفي قصيدة له بعنوان "موال دمشقي" يقول:
وددت لو زرعوني فيك مئذنة أو علقوني على الأبواب قنديلاً
يا بلدة السبعة الأنهار... يا بلدي ويا قميصاً بزهر الخوخ مشغولاً
ويا حصاناً تخلّى عن أعنته وراح يفتح معلوماً، ومجهولاً
هواك يا بردى، كالسيف يسكنني وما ملكت لأمر الحب تبديلاً
والنهر يُسمعنا أحلى قصائده والسرو يلبس بالساق الخلاخيلا