تشعر ليندا ألبرتسون، المديرة التنفيذية لـ"جمعية البحث في الجرائم المرتكبة ضد الفن" (منظمة تعمل على حماية التراث الثقافي)، بالقلق من عمليات بيع الآثار عبر بيوت المزادات، مثل كريستيز التي تمضي قدمًا في تجارتها على الرغم من اعتراضات دول تنتمي تلك المقتنيات إلى تاريخها ويعود لها ذلك التراث.
وفي يوليو/تموز الماضي، عرض تمثال نصفي للفرعون المصري توت عنخ آمون في المزاد، ولم تنجح السلطات المصرية في إيقاف هذه العملية. وبالمثل جرت من قبل عمليات بيع غير مشروعة لآثار عراقية إلى متحف الكتاب المقدس، في واشنطن العاصمة.
مخاوف ألبرتسون يؤكدها تقرير "التجارة غير المشروعة في السلع الثقافية بأوروبا" والذي صدر في 12 يونيو/حزيران 2019 عن المفوضية الأوروبية، إذ يحذر من أنّه "كان من المستحيل التمييز بين السلع المرخصة وغير المشروعة. ولم يكن هناك قدرة للوصول إلى ما تم بيعه لفحصه وإثبات صحة بياناته وتوافقها مع تاريخ تداول تلك السلع". ويقدّر التقرير أنّ التجار الأوروبيين يبيعون ما بين 140 ألفا وحتى 700 ألف قطعة أثرية يتم الحصول عليها من أوروبا وشمال أفريقيا وغرب آسيا سنويًا، بقيمة نقدية إجمالية تتراوح بين 64 مليون يورو وحتى 318 مليون يورو.
مسؤولية دور المزادات
"وبينما لا يمكن تتبع مصدر المقتنيات القديمة نظرا لطبيعة التحركات المختلفة على مدى آلاف السنين"، كما يقول المتحدث باسم دار مزادات كريستيز، لـ"العربي الجديد"، إلا أن الدار تعمل بجد لضمان توثيق بيانات جميع المقتنيات التي تبيعها بدقة، لضمان وقوع الأمر عبر إطار قانوني صحيح". وفي حالة تمثال توت عنخ آمون، يقول المتحدث باسم الدار والذي طلب تعريفته بصفته لا باسمه، أنّهم بذلوا العناية الواجبة وبشكل واسع النطاق للتحقق من المصدر ومدى كون ملكيته قانونية، مع إثبات جميع الحقائق المطلوبة لإتمام البيع. ويتابع: "ندرك أن المقتنيات التاريخية يمكن أن تثير مناقشات معقدة حول الماضي، ونود أن نشارك باحترام في تلك النقاشات، ولم ولن تبيع كريستيز أي قطعة من دون التحقق من وثائق واضحة للملكية وفهم دقيق وشامل لكل التطورات الحديثة بشأنها".
ويعتبر العراق أكثر البلدان التي عانت بشدّة من نهب متكرر للمواقع الأثرية والمجموعات الموجودة في المتاحف، وخاصة في أعقاب الغزو الذي قادته أميركا والمملكة المتحدة في إبريل/نيسان عام 2003، إذ فقد المتحف الوطني حوالي 15 ألف قطعة أثرية، ولم يُستعد منها سوى حوالي سبعة آلاف قطعة ولا يزال أكثر من ثمانية آلاف أثر في عداد المفقودات، بحسب ما أوردت مؤسسة "ذا كونفرسيشن" البحثية المستقلة.
العراق أكثر البلدان التي عانت بشدّة من نهب متكرر للمواقع الأثرية بعد الاحتلال الأميركي
وتعد آثار دول "العراق واليمن وليبيا وسورية الأكثر تعرضا للنهب المنظم منذ عام 2011"، كما يؤكد الدكتور زاهي حواس، وزير الآثار المصري السابق، في حديثه لـ "العربي الجديد"، قائلا: "خلال الفترة من 2011 وحتى عام 2012 حفر العديد من المصريين خلسة داخل منازلهم وعثروا على قطع أثرية تمّ تهريبها خارج البلاد في ظل الفوضى التي كانت موجودة"، لافتاً إلى أنّ مصر الحديثة بنيت فوق مصر القديمة، وأنّ الآثار موجودة في كل مكان تقريباً. ولا يمكن معرفة الآثار التي خرجت خلسة من البلاد لذلك فعملية استعادة ما تم نهبه صعبة في مصر ومختلف البلاد العربية.
ويكمل: "دور العرض تبيع آثاراً مسروقة ويوجد مشاكل بيننا وبينهم، لكن لم يتم رفع قضايا لأنها مكلفه جداً، ونتفاوض عبر مكاتبات بين إدارة الآثار والمستودع وصالات العرض". ويمكن تزوير المستندات الخاصة بملكية القطع الأثرية المنهوبة إلى درجة عالية جدًا لدرجة أن دور المزاد العالمية قد تعتقد أنها حقيقية، وفق ما تؤكده الدكتورة سليمة إكرام، رئيسة وحدة المصريات بالجامعة الأميركية في القاهرة، قائلة لـ"العربي الجديد": "قلّة العلماء القادرين على تمييز القطع الأثرية المزيفة من الحقيقية، وغياب السجلات المرقمنة والصور التي تساعد في تحديد القطعة تعد أبرز تحديات إثبات الملكية للآثار التي تم نهبها قبل صدور قانون عام 1983 الذي منع تداول الآثار المصرية بيعا أو شراء".
دور مفقود لليونسكو
نص قانون الآثار المصري الصادر في عام 1951 على السماح بتبادل الآثار المكررة مع المتاحف والأشخاص وبيعها والتنازل عنها للهيئات والأفراد المصرح لهم بالتنقيب، واستمر الأمر حتى صدور قانون رقم 117 في أغسطس/آب عام 1983 والذي جعل نظام قسمة الآثار وفق نسبة 10 بالمئة فقط للبعثات العاملة في التنقيب وأن تكون هذه النسبة من القطع المكررة وأن تكون لأغراض البحث العلمي والعرض المتحفي ولا يجوز للبعثات الأجنبية الاتجار فيها. وظل هذا القانون ساريا حتى صدور تعديل لقانون الآثار في فبراير/شباط 2010 والذي نص على أن "جميع الآثار المكتشفة من البعثات الأجنبية أو المصرية تصبح ملكا لمصر".
نص قانون الآثار المصري الصادر في عام 1951 على السماح بتبادل الآثار وبيعها واستمر الأمر حتى صدور قانون رقم 117 في أغسطس/آب عام 1983 والذي جعل نظام قسمة الآثار وفق نسبة 10 بالمئة فقط للبعثات العاملة في التنقيب
ويقول حواس إن قانون عام 1983 أكد أنه يجوز للحائز على قطعة أثرية التصرف بها فقط بعد الحصول على موافقة كتابية من هيئة الآثار المصرية، وبالتالي فإن الطريقة الوحيدة لمعرفة الآثار المنهوبة، هي أن تضع اليونسكو قانوناً يلزم صالات العرض في أوروبا والعالم، بإظهار المستندات القانونية التي تثبت خروج الآثار من بلدانها بطريقة رسمية وقبل تاريخ صدور قوانين منع البيع المحلية واتفاقية اليونسكو لعام 1970.
سألت "العربي الجديد" منظمة اليونسكو عن اقتراح حواس، فأجاب إميل جليلي، نائب مدير قسم المشاريع الثقافية ومساعد قانوني في المنظمة، أنّه من غير المحتمل أن يتم سن قانون (أو اتفاقية دولية) لإجبار متاحف وصالات عرض متنوعة على إبراز وثائق تدقيق في مصادر القطع الأثرية التي بحوزتها. كذلك ليس من اختصاص منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، مراجعة القطع الأثرية للتأكد من صحة عملية بيعها وشرعيتها، ولكنّها تزوّد الدول الأعضاء بالأدوات اللازمة لتنفيذ اتفاقية 1970، (أول اتفاقية دولية لمكافحة الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية وتشمل التدابير الواجب اتخاذها لحظر ومنع الاستيراد غير المشروع وتصدير ونقل الملكية).
يتابع جليلي، أنّ اللجنة الحكومية الدولية لتعزيز إعادة الممتلكات الثقافية إلى بلدانها الأصلية أو ردها في حالة الاستيلاء غير المشروع (ICPRCP)، (تتيح لأعضاء اليونسكو المطالبة بإعادة آثارهم إلى بلدانها الأصلية في حالة الاستيلاء غير المشروع)، تعتمد نموذجا محدّدا للمطالبة باسترداد الآثار إلى بلدانها الاصلية، تظهر فيه الأدلة والمعلومات المطلوبة لتوثيق طلبات العودة واستعادة الحقوق.
وخلال الأعوام الأخيرة، تمّ استرداد قرص مسماري في 14 يناير/كانون الثاني 2016، يعود تاريخه إلى عام 2049 قبل الميلاد من ألمانيا إلى العراق. كذلك أعادت سويسرا في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، تماشيا مع اتفاقية اليونسكو، 26 تمثالا أثريًا إلى مصر، تشمل تمثالا للإله أنوبيس (إله الموت)، و12 تمثالًا جنائزيًا تعرف باسم أوشابتي وتمائم مختلفة مثل عين حورس، وفي 26 أكتوبر/تشرين الأول 2017، أعادت فرنسا إلى مصر ثماني قطع أثرية، ضبطتها الجمارك الفرنسية في يناير/كانون الثاني 2010، وذلك بحسب تقرير اليونسكو.
استغلال اتفاقية 1970
يدعو المؤرخ العراقي وأستاذ مادة التاريخ الأوروبي في الجامعة المستنصرية في بغداد، علي النشمي، إلى ضرورة المطالبة بإلغاء اتفاقية عام 1970، لأنها تسمح بالمتاجرة بالآثار التي بيعت قبل هذا التاريخ إذ إنه بموجب الاتفاقية، يجوز لأي طرف، طلب استرداد ومساعدة دولة أخرى لاستعادة الممتلكات الثقافية المسروقة أو المصدرة بشكل غير قانوني فقط بعد تاريخ تطبيق الاتفاقية في كلتا الدولتين، وهو ما شكل ثغرة للالتفاف والتلاعب بتاريخ بيع القطع الأثرية.
على سبيل المثال، يقول الدكتور النشمي، إن منحوتة أشور ناصربال، سرقت من العراق في عام 1858، وبيعت في العام الماضي في مزاد كريستيز بمبلغ 36 مليون دولار وفشل العراق في إيقاف عملية البيع. ويلفت الدكتور النشمي إلى أنّ بعض القطع الأثرية التي سرقها ناهبو الآثار، لا تساوي فلساً عند إعادتها إلى البلاد، بسبب ما يجري خلال عملية التنقيب التي غالباً ما تكون همجية، ولا تتماشى مع معايير البعثات الأكاديمية، وهو ما يحرمنا من معرفة مصدر القطعة الأثرية أو عمرها، خاصة مع خروجها من البلاد، من دون رموز تميزها.
لكن ألبرتسون ترى أن تمييز الآثار برموز لتتبعها مثل تقنيات العلامة المائية قد يؤدي إلى إلحاق الضرر بها، إما عن طريق المواد المستخدمة في عملية التتبع أو عبر استخدام اللصوص المستقبليين لضوء فوق بنفسجي غير مكلف، لتحديد أي جزء من القطع الأثرية تم تمييزه ثم قطع هذا الجزء. والعيب الثاني، برأيها، هو في حال لم يكتشف اللصوص هذه المواد، فإنها تبقى فعالة لفترة زمنية قصيرة نسبيًا. لأنّه وفقًا لشرطة متروبوليتان، يمكن توقع أن تعمل مادة التتبع هذه على القطع الخارجية، مع مراعاة الرطوبة لمدة خمس سنوات تقريبًا. ونظرًا لأن دورة حياة سرقة أو نهب القطع الأثرية في السوق، عادة ما تكون أطول من ذلك، فإن إنفاق المال على تطبيق هذه العملية وإعادة تطبيقها قد لا يساعد كثيرًا.