يمثّل تنحي داود أوغلو حدثاً مفصلياً في السياسة الداخلية التركية، إذ إنه ينهي حقبة انتقالية في غاية الأهمية تمثّلت بوجود رئيس وزراء قوي جنباً إلى جنب مع رئيس جمهورية قوي، تمهيداً لتحول فعلي إلى النظام الرئاسي، ينهي نحو مائة عام من تاريخ النظام البرلماني للجمهورية التركية. هذا الأمر أشار إليه داود أوغلو، خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده في مقرّ "العدالة والتنمية"، في العاصمة التركية أنقرة، بتأكيده أنه أدى الوظيفة التي عهد بها إليه رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان عند خلافته له، بعد فوز الأخير بالانتخابات الرئاسية في أغسطس/آب الماضي. وقال داود أوغلو، أمس، "لقد أديت حق الوظيفة الثقيلة التي عُهد بها إلي في كل جبهة، وعندما قال رئيس الجمهورية إنه لا يريد رئيس وزراء تنفيذياً فقط، كان محقاً، وأنا لم أكن رئيس وزراء تنفيذياً فحسب".
بدا تنحّي داود أوغلو حدثاً غير متوقع، اندلعت شراراته الأولى في العشرين من إبريل/نيسان الماضي، بعد قيام 47 من أعضاء اللجنة المركزية لـ"العدالة والتنمية" من الموالين للرئيس التركي، من أصل 50 عضواً بجمع توقيعات لإعادة صلاحية تعيين رؤساء الفروع والشعب الحزبية من رئاسة الحزب إلى اللجنة المركزية. الأمر الذي لمّح إليه داود أوغلو عبر توجيه انتقادات لرفاقه في الحزب، بالقول "المثل يقول: الرفيق قبل الطريق، ولطالما أردت أن أعرف قبل أن أسير في أي طريق، إنْ كان الرفاق معي أم لا. كنت أوّل من وقّع على الطلب في اجتماع اللجنة المركزية، لكن لم أتوافق كرفيق مع الإدارة. وبهذا المعنى لا بد من محاسبة للرفاق ولي".
وعلى الرغم من أن داود أوغلو أبدى التزاماً حزبياً قلّ نظيره بعدم التسبب في أي خلافات ضمن الحزب والحفاظ على وحدته، كان واضحاً أن التنحي لم يكن بين خططه، بل تم بضغوط من أردوغان. وهذا ما بيّنه رئيس الوزراء في كلمته قائلاً "بعد اللقاء الذي جمعني مع رئيس الجمهورية، يوم أمس (الأربعاء)، وكرفيق، قررت أن الخيار الصائب هو تغيير رئيس الحزب. لذلك لا أفكر في أن أكون مرشحاً لرئاسة الحزب". وأضاف "لا بد لنا من حفظ حقوق أولئك الذين صوّتوا لنا في انتخابات الأول من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. لقد قمنا باتخاذ الخطوات الضرورية للحفاظ على حقوقكم، كنت أنتظر أن تستمر الفترة لمدة أربع سنوات، لكن عدم حصول ذلك لم يكن لرغبة مني، بل نتيجة للضرورات التي ظهرت لاحقاً".
من جانبها، استنكرت المعارضة التركية تنحي داود أوغلو، إذ وصف زعيم حزب الشعب الجمهوري (أكبر أحزاب المعارضة)، كمال كلجدار أوغلو تنحي داود أوغلو بـ"الانقلاب الذي قام به السراي الرئاسي، وهو لا يقل أهمية عن الانقلابات العسكرية" على حد تعبيره.
توازنات داخلية
لم يصمد تيار "الخوجاجيلار"، نسبة إلى الخوجا أي المعلم وهو اللقب الذي يطلق على أحمد داود أوغلو في صفوف "العدالة والتنمية"، كثيراً في وجه تيار "الرئيسجيلار" نسبة إلى الرئيس رجب طيب أردوغان، على الرغم من دعم عدد من شخصيات الحرس القديم في الحزب للخوجاجيلار ومنهم نائب رئيس الوزراء السابق بولنت أرينج، ورئيس الجمهورية السابق عبدالله غول. فتوازن القوى الحالي الذي وضعه المؤتمر الأخير لـ"العدالة والتنمية" لا يسمح للخوجاجيلار بالمقاومة.
وانتهى المؤتمر الأخير الذي عُقد في سبتمبر/أيلول الماضي إلى إحكام قبضة أردوغان على اللجنة المركزية للحزب، المكوّنة من 50 عضواً دائماً، و25 عضواً احتياطياً. وشهدت حينها تغييرات كبيرة في اللجنة منها؛ انضمام 31 اسماً جديداً من قيادات الصف الثاني الموالية لأردوغان إلى اللجنة، مقابل خروج عدد كبير من مؤسسي "العدالة والتنمية"، أو ما يطلق عليهم "شيوخ الحزب". ومن أبرز هؤلاء الشيوخ، أحد مؤسسي الحزب، بولنت أرينج، الذي أعلن اعتزاله السياسة، ونائب رئيس الوزراء السابق، أحد المسؤولين السابقين عن مع حزب "العمال الكردستاني"، بشير أتلاي، ووزير الثقافة السابق حسين جيلك، ونائب رئيس الوزراء علي باباجان، الذي قاد اقتصاد تركيا خلال السنوات الـ13 الماضية، ووزير المالية السابق، محمد شيمشيك، وذلك لصالح ظهور شخصيات موالية وبشدة لأردوغان.
وأبرز هؤلاء، مستشار الرئيس، وزير الاتصالات السابق، بينالي يلدرم، ومستشار الرئيس القانوني، برهان كوزو، وزوج ابنة أردوغان، براءات البيرق، وصديق طفولته، مجاهد أصلان. ولا يتجاوز عدد الأسماء المقربة من داود أوغلو في اللجنة أو الخوجاجيلار، أكثر من اسمين، وهما كل من محمد بابا أوغلو، وسلجوق أوزتورك بعدما تمّ استبعاد باقي المرشحين المقربين من داود أوغلو، مثل علي ساري كايا، إرتان أيدن، وطه أوزهان. وفي ظلّ قبضة أردوغان القوية على الحزب، يمكن اعتبار خروج داود أوغلو مثل دق المسمار الأخير في نعش النظام البرلماني، والتحول الفعلي، وبشكل نهائي، إلى النظام الرئاسي، إذ إن جميع المرشحين لخلافة داود أوغلو لن يكونوا أكثر من موظفين إداريين لتنفيذ أوامر رئاسة الجمهورية.
أما عن خليفة داود أوغلو، فعادت الأسماء ذاتها التي كان قد تم تداولها لخلافة أردوغان بعد فوزه بانتخابات الرئاسة في أغسطس/آب 2014، إضافة إلى أسماء بعض الشخصيات الجديدة شديدة الولاء لأردوغان، بل وتكاد تكون الناطق الرسمي باسمه. وتشمل هذه الأسماء كلا من ذراعه اليمنى والأقرب إلى خلافة داود أوغلو، وزير الاتصالات الحالي بن علي يلدرم، وكذلك نائب رئيس الوزراء يالجين أكدوغان، ووزير العدل بكير بوزداغ، ووزير الطاقة براءات البيرق (صهر أدروغان)، إضافة إلى نائب رئيس الوزراء نعمان كورتولموش، الأمر الذي ستحدده رئاسة الجمهورية في وقت لاحق.
نقاط اختلاف
على الرغم من العلاقات الجيدة التي جمعت كلا من داود أوغلو وأردوغان على مدار أكثر من 13 عاماً على العمل المشترك، لم يمنع ذلك من حدوث أزمات، بعضها تسرب إلى الإعلام على أنها أزمات صغيرة وبعضها لم يعرف بها إلّا الدوائر المقرّبة. إلا أن التوتر بدً واضحاً منذ تولي أردوغان الرئاسة وتولي داود أوغلو رئاسة الوزراء. ويمكن الحديث عن ثماني أزمات واضحة بين الطرفين، كان آخرها اللجنة المركزية للحزب.
أول الخلافات بين الرجلين يكمن في رئيس المخابرات التركية حاقان فيدان، إذ قام الأخير، وبعد التشاور مع داود أوغلو، بالترشح للانتخابات البرلمانية الأولى في يونيو/حزيران الماضي، إلا أن أردوغان رفض الأمر، واستمر في ضغوطه على فيدان حتى قام الأخير بسحب ترشيحه والعودة إلى ممارسة وظيفته في إدارة المخابرات.
واندلع الخلاف الثاني بعدما تقدمت حكومة داود أوغلو بحزمة من القوانين أطلق عليها "حزمة الشفافية". وكانت تقضي بأن يفصح جميع الساسة عن ثرواتهم بما في ذلك قيادات فروع الأحزاب. رفض أردوغان الحزمة واجتمع بقيادات مهمة من "العدالة والتنمية" في القصر الرئاسي وقال لهم "إنْ قمنا بإنزال الإفصاح عن الثروة لمستوى قيادات الفروع والشعب الحزبية، فإننا لن نجد من يتولى هذه المناصب"، لتسحب الحكومة الحزمة تحت ضغط أردوغان.
كما انقلب أردوغان على إعلان "دولمة بهجة" وهو المؤتمر الصحافي الذي جمع قيادات الشعوب الديمقراطي (الجناح السياسي للعمال الكردستاني) بمسؤولين حكوميين في نهاية فبراير/شباط الماضي، والذي كان يعتبر خطوة مهمة في عملية السلام التي كانت جارية مع حزب العمال الكردستاني.
وبعد الانتخابات البرلمانية، في يونيو/ حزيران الماضي، التي خسر فيها "العدالة والتنمية" الغالبية البرلمانية الكافية للتفرد بالحكم، عمل داود أوغلو على إقامة حكومة ائتلافية إلّا أن أردوغان رفض ذلك، واستمر في جهوده لعرقلة الحكومة الائتلافية، والضغط نحو إعادة الانتخابات. الأمر الذي حصل بالفعل في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، واستعاد "العدالة والتنمية" الغالبية البرلمانية الكافية للتفرد بالحكومة.
وكان التحول من النظام البرلماني إلى الرئاسي وشكل هذا الأخير أحد الخلافات بين الجانبين، إذ أكد داود أوغلو في تصريحاته بعد نتائج انتخابات يونيو/حزيران الماضي، والتي ركزت خلالها الحملة الانتخابية لـ"العدالة والتنمية" على أمر التحول إلى النظام الرئاسي، أن "الأمة لم تمنحنا الإذن بتغيير الدستور". وأضاف "لقد رغبنا أن نغير النظام، والعمل بالنظام الرئاسي، وأنا أيضا أردت ذلك، ووضع الأمر في البرنامج الانتخابي. لم أكن ضد النظام البرلماني، لكن النظام المطبق في تركيا الآن ليس النظام البرلماني. ونحن نبدأ بالتصرف نحو التحول إلى النظام الرئاسي إلا أن الشعب لم يعجبه ذلك، ولم يمنحنا ما يكفي من الأصوات". فردّ أردوغان على داود أوغلو، في أغسطس/آب الماضي، قائلاً إن "النظام في تركيا تغيّر أساساً"، مضيفاً "كائناً من كان في منصب رئاسة الجمهورية، سيفعل كما أفعل تماماً، شاء من شاء ورفض من رفض. وبهذا المعنى، فإن النظام في تركيا قد تغيّر، ولم يبق إلا أن ينعكس الأمر الواقع الحالي بشكل حقوقي ويتم تأكيده عبر تغيير الدستور".
كما شهد المؤتمر غير الاعتيادي لحزب "العدالة والتنمية" في سبتمبر/أيلول الماضي، أزمة بين الرجلين حول تشكيلة أعضاء اللجنة المركزية لـ"العدالة والتنمية" سواء الأصليين أم الاحتياطيين. وبعد إصرار داود أوغلو على القائمة التي كان قد جهزها لتشكيلة اللجنة المركزية، بدأ اسم وزير المواصلات الحالي، أحد أذرع أردوغان بالصعود مجدداً كمرشح منافس على رئاسة الحزب ضد داود أوغلو. كما قام الأخير بجمع التواقيع ليتم تمرير قائمة أردوغان الذي أحكم قبضته على اللجنة المركزية.
كما وجه أردوغان انتقادات شديدة لموقف داود أوغلو من أزمة الأكاديميين الذين وقّعوا عريضة تطالب بالسلام ووجه للحكومة التركية اتهامات بالإفراط بالعنف من دون أي انتقادات لحزب العمال الكردستاني. بينما كان موقف داود أوغلو مؤيداً لحرية التعبير داعياً لمحاكمة الأكاديميين من دون احتجازهم، ليوجه أردوغان في إحدى كلماته انتقادات شديدة لداود أوغلو في هذا الصدد.
إجراءات روتينية
يستمر داود أوغلو بإدارة شؤون الحكومة إلى حين انعقاد مؤتمر الحزب في 22 من الشهر الحالي، إذ من المتوقع أن يتم انتخاب الشخص الذي سيختاره أردوغان بالإجماع، كما تم عند انتخاب داود أوغلو في المؤتمرَين الأخيرين للحزب، ليقوم أردوغان بصفته رئيساً للجمهورية بتكليف رئيس الحزب المنتخب بإنشاء الحكومة الجديدة. وسيكون إقرار هذه الحكومة إجراءً روتينياً بسبب امتلاك "العدالة والتنمية" الغالبية البرلمانية الكافية لذلك، إذ من المستبعد أن تشهد الكابينة الجديدة أي تغييرات واسعة.
أما في ما يخص السياسات والبرامج، فمن غير المرجح أن تتبع الحكومة الجديدة سياسات مختلفة، سواء على الصعيد الخارجي أو الداخلي أو على المستوى الاقتصادي، بخلاف زيادة التركيز على كتابة الدستور الرئاسي الجديد الذي وعدت الحكومة الحالية بتقديمه إلى البرلمان نهاية يونيو/حزيران المقبل. الأمر الذي قد يتأخر بسبب انشغال كوادر الحزب بالمؤتمر المقبل.
سيناريوهات ما بعد التنحي
تتداول أروقة السياسة في أنقرة عدداً من السيناريوهات لما بعد تنحي داود أوغلو، بدءاً من اللجوء إلى انتخابات مبكرة في الصيف المقبل، مروراً بانتخابات قريبة على بعض المقاعد التي سيتم إفراغها من قبل بعض نواب المعارضة، وتحديداً نواب الشعوب الديمقراطي، بعد إقرار رفع الحصانة والمحاكمة، وانتهاءً باستمرار الأمور على ما هي عليه لغاية الانتخابات البرلمانية المقبلة عام 2019. وفي هذا التاريخ، تحدد قدرات "العدالة والتنمية" للضغط وتمرير الدستور الجديد بنظام الرئاسي في البرلمان، القرار الذي سيتخذه أردوغان، وبالتالي "العدالة والتنمية".
ونفت كل التصريحات الرسمية من مسؤولي "العدالة والتنمية" أو الحكومة الحالية، مراراً، الرغبة في خوض انتخابات برلمانية مبكرة الصيف المقبل، وكان آخرها، أمس الخميس، على لسان المستشار الاقتصادي للرئاسة التركية جميل إردم، مؤكداً أن خليفة داود أوغلو سيستمر في منصبه لغاية الانتخابات المقبلة 2019، ولن يكون هناك أي تغييرات في الإدارة الاقتصادية.
لكن بعض المراقبين يرجحون أن يكون "العدالة والتنمية" أقرب إلى خوض انتخابات مبكرة في أغسطس/آب المقبل بعد التقدم بمشروع الدستور نهاية حزيران/يونيو المقبل كما وعد الحزب، وذلك لرفع عدد مقاعد الحزب في البرلمان من 316 إلى 330 مقعداً، وهو العدد اللازم لتحويل الدستور الجديد إلى الاستفتاء الشعبي من دون الحاجة إلى موافقة المعارضة. وتؤكد معظم استطلاعات الراي ارتفاع أصوات "العدالة والتنمية" بعد الإدارة الناجحة للعمليات العسكرية ضد "العمال الكردستاني"، وكذلك في ظل الضعف الشديد الذي تعاني منه أحزاب المعارضة المختلفة. وتشير أحدث استطلاعات الرأي إلى أنّ أياً من "الشعوب الديمقراطي" أو "الحركة القومية" (يميني متطرف) الذي يعاني من انشقاقات وخلافات كبيرة، لن يتجاوزا العتبة البرلمانية، في ظل الضعف الكبير للأداء السياسي لحزب الشعب الجمهوري (أكبر أحزاب المعارضة).
في المقابل، يستبعد بعض المراقبين توجه "العدالة والتنمية" لانتخابات مبكرة، إذ يؤكد مدير شركة "إي آند جي" لاستطلاعات الرأي، عادل غور أن "العدالة والتنمية لن يلجأ إلى هذا الخيار"، مشيراً إلى أن "كل ما يحتاجه العدالة والتنمية هو تأمين 14 صوتاً في البرلمان لصالح مشروعه ليتم تحويله إلى الاستفتاء الشعبي، وهو أمر ليس صعباً، خصوصاً أن التصويت على التعديلات الدستورية هو تصويت سري. وبالتالي لن تلاقي الحكومة صعوبة في استمالة عدد من النواب المعارضين للتصويت لصالح الدستور الجديد، في ظل عدم وجود معارضة حقيقية من قبل نواب الحركة القومية للأمر، وكذلك من قبل نواب الشعوب الديمقراطي"، وفقاً لغور. وأمام هذه التطورات يبقى الخياران الآخران مطروحان على الطاولة.