نموذج السلام المصري - الإسرائيلي: تنسيق أمني وتبعية اقتصادية

23 فبراير 2019
لم يجن المصريون ثمار السلام الموعودة(محمد الشاهد/فرانس برس)
+ الخط -
مرت أكثر من أربعة عقود على آخر حرب خاضها الجيش المصري في تشرين الأول/ أكتوبر 1973، ولذلك تراجعت جاهزيته للقتال، خصوصاً مع تنامي دوره الاقتصادي الذي أصبح يغطي نحو ثلث الاقتصاد المصري، ومع وجود ثقافة جديدة رسختها فترة حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك تقضي بتولي الضباط العسكريين الكبار المتقاعدين لمناصب مهمة في إدارة الدولة. وقد جعل ذلك الجيش أميل إلى وجود استقرار سياسي، وإلى الإبقاء على خيار التسوية السلمية، والخوف من وقوع السلطة في أيدي قوى حزبية أو اتجاهات يمكن، حسب رأي قيادة الجيش، أن تورط البلد في حروب أو مغامرات عسكرية أو عداءات تستنزف الجيش كما تستنزف مصر ومواردها، أو قد تشكل خطراً على أمنها القومي.

بدأ انخراط الجيش المصري في الأنشطة الاقتصادية المدنية مطلع الثمانينيات، وتحديداً عقب توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1979، وما ترتب عليها من تقليص للمهام القتالية للجيش وخفض ميزانية الدفاع، وهو ما دفع القوات المسلحة للالتفات للنشاط الاقتصادي لتعويض ذلك. ومنذ بداية التسعينيات وحتى عام 2000، بدأ نظام مبارك في تطبيق خطة للتحرير الاقتصادي، أو ما سُمي بسياسة الخصخصة الاقتصادية، شهدت هذه الفترة توسع الجيش في إنتاج السلع والخدمات المدنية بشكل أكبر، كما أقام المزيد من الشركات والمصانع الجديدة، والمزارع الشاسعة.

من التصنيع الحربي إلى الانفتاح الاقتصادي
لم تدم محاولات التصنيع العسكري المصري طويلًا بعد عودة وزارة الإنتاج الحربي عام 1971، إذ انقضت آخر حروب مصر مع الاحتلال الإسرائيلي عام 1973، أما مشروع الهيئة العربية للتصنيع التي أنشئت عام 1975، برأس مال يفوق المليار دولار، بغرض بناء صناعات عسكرية عربية مشتركة، فكان نصيبه الفشل بسبب التجاذبات السياسية العربية، وكتبت شهادة وفاته عام 1993 بعد انسحاب الإمارات والسعودية من الهيئة.

استمرت "وزارة الإنتاج الحربي" التي جمعت غالبية المصانع العسكرية المصرية تحت إدارتها في التصنيع العسكري الخفيف والمتوسط، لكنها وبعد انتهاء عصر الحرب بتوقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل، بدأت تتحول هي الأخرى عن أهدافها التي أُنشئت من أجلها، فلم يعد التصنيع العسكري هدف الوزارة الرئيس تزامنًا مع برامج الانفتاح الاقتصادي التي بدأها الرئيس المصري أنور السادات وأكملها الرئيس المخلوع مبارك، ودخل الجيش المصري مضمار المنافسة في الاقتصاد المدني بشكل رسمي عبر القرار رقم 32 لسنة 1979 بشأن إنشاء جهاز مشروعات الخدمة الوطنية. صدر القرار بغرض تحقيق اكتفاء ذاتي للقوات المسلحة من السلع الغذائية والمدنية، وفي عهد مبارك تحول الجهاز ومعه وزارة الإنتاج الحربي التي امتلكت شركاتها ومصانعها الخاصة تدريجيًا كل شيء، عدا الصناعات العسكرية.

بعد صعود عبد الفتاح السيسي ليتولى وزارة الدفاع، أعلن عن تشكيل قوات التدخل السريع، وأعلن أن تلك القوات التي تم تشكيلها للمرة الأولى في القوات المسلحة، تأتي لتعزيز قدرة الجيش على مواجهة التحديات التي تواجه مصر في الداخل والخارج؛ وهو الدور الذي حاولت واشنطن طيلة عقود أن تجعله أولوية الجيش المصري بدلا من مواجهة إسرائيل. وأصبح التوجه الجديد للقوات المسلحة، يقول إن القادة الجدد للجيش المصري قد بدأوا بالفعل في تغيير عقيدة القوات المسلحة من قتال إسرائيل إلى محاربة الإرهاب.

اعتبرت فترة ما بعد الثالث من يوليو/ تموز عام 2013 فترة ذهبية في تاريخ الشركات العاملة في حقل الإنتاج المدني التابعة للجيش المصري بشكل عام ووزارة الإنتاج الحربي بشكل خاص، وهي شركات كانت تعاني من انخفاض الإيرادات في فترات سابقة، خاصة مع قوة القطاع المدني، إلا أن نشاطها شهد توسعا غير مسبوق لتصل توقعات إيرادات تشغيل شركاتها لقرابة 15 مليار جنيه مصري في عام 2018، وهو ما يعد خمسة أضعاف ما كانت عليه في عام 2013 قبل صعود السيسي للحكم بعد انقلاب عسكري مدعوم من السعودية والإمارات.
لم يكن التحول من التصنيع الحربي إلى النشاط الاقتصادي هو الملمح الوحيد لحدوث تحول في عقيدة الجيش المصري وتغليبه للاقتصادي والريعي والربحي على العسكري، ولكن حدث تحول في تعريف العدو، إذ لم تعد إسرائيل هي العدو إطلاقا بل بدت كحليف وصديق.

تجلت أبرز ملامح التحول في عقيدة الجيش المصري في الذكرى الـ44 لنصر أكتوبر 1973، والذي تزامن مع تنظيم تدريبات عسكرية مشتركة بين مصر وإسرائيل لأول مرة، وكان وزير الدفاع اليوناني بانوس كامينوس قد أعلن أن بلاده تنوي المشاركة في تدريب عسكري مشترك بين سلاح الجو المصري و(الإسرائيلي) والقبرصي. وقد أفضت التدريبات العسكرية المشتركة بين مصر وإسرائيل إلى طرح تساؤل عما إذا كانت إسرائيل قد باتت شريكاً لمصر بعدما كانت عدوا وقاتلة ومحتلة؟! حيث بنيت العقيدة العسكرية للجيش المصري منذ 1948 على اعتبار إسرائيل العدو الأول.

ظهر التطور العلني للعلاقات المصرية­ الإسرائيلية جلياً خلال مشاركة السفير المصري حازم خيرت في مؤتمر "هرتسيليا" السادس عشر المتخصص في مراجعة السياسات الأمنية والدفاعية للدولة العبرية، وعنوانه "أمل إسرائيلي، رؤيا أم حلم؟".

وفي مداخلة لسفير إسرائيل السابق في القاهرة ديفيد غوفرين، في "معهد أبحاث الأمن القومي INS" في جامعة تل أبيب، قال إن العلاقات بين إسرائيل ومصر تعتمد إلى حد كبير على الجانب العسكري، وأنه من أجل تثبيت السلام يجب أن يقوم على قدمين؛ الأولى عسكرية والثانية مدنية اقتصادية، والدمج بين الجانبين يضمن بقاء التعاون على المدى البعيد بين الطرفين.

نجحت إسرائيل أخيرا، بفضل مجموعة عوامل، على رأسها تفعيل النشاط الاقتصادي للجيش المصري وتنشيط بيئة السلام الاقتصادي بينها وبين مصر من كامب ديفيد إلى اتفاقية "الكويز" العام 2004 وصولا لتصدير الغاز لمصر، في أن تتحول من العدو الأول والخطر الأكبر على مصر، إلى الحليف الأهم عسكرياً وسياسياً، فبعدما كانت العلاقة بين الدولتين حالة حرب ومواجهة عسكرية مباشرة، أصبح التنسيق العسكري والأمني بينهما يفوق كل التوقعات، كما وصفت القناة العاشرة الإسرائيلية، حتى صارت العمليات العسكرية المصرية في سيناء تتم بناءً على المعلومات الاستخباراتية الإسرائيلية، بالرغم من أنه ومنذ فترة وجيزة كان هناك رفض إسرائيلي قاطع لدخول أية معدات حربية لسيناء ومطالبة صارمة للجيش المصري بإخراج دباباته من سيناء، بل وأصبح الجيش الإسرائيلي نفسه يقوم بعمليات عسكرية داخل الأراضي المصرية.

ختاما، فإن السلام الاقتصادي لم يكن وحده المسؤول عن تغيير عقيدة الجيش المصري، لكن للعنصر البشري دوره أيضا، خاصة أن القيادة العسكرية الحالية في مصر لم تخض أي حرب ضد إسرائيل. ويمكن إضافة سبب آخر ذو أهمية بالغة في تغيير العقيدة العسكرية للجيش المصري، وهو تحول القوات المسلحة من كونها مؤسسة حربية تخوض الحروب دفاعاً عن الوطن، إلى مؤسسة مهتمة بإدارة المشروعات المدنية والاقتصادية، وعليه أصبح قادة الجيش يستبعدون من أذهانهم تماماً فكرة الحرب أو اعتبار إسرائيل عدواً يجب مواجهته.
المساهمون