نكتة أصبحت حقيقة

18 فبراير 2015

النظام البنكي، رغم قوته وجبروته، قابل للاختراق (Getty)

+ الخط -

كانت سويسرا معروفة بثلاث مزايا: دقة ساعاتها، وازدهار صناعة الشوكولاتة فيها، وحصانة سر أبناكها. لهذا كان الأثرياء يقصدونها، وهم مطمئنون إلى أن أسرارهم المالية في بئر عميقة. لم يعد هذا الأمر قائماً اليوم، بعد أن ضرب زلزال كبير أوساط السياسة والمال في العالم كله، عقب فضيحة (سويس ليكس) التي كشفت النقاب عن آلاف الحسابات البنكية في مجموعة HSBC البريطانية التي تملك أهم فرع لها في سويسرا.

بدأت القصة عندما أقدم موظف سابق، في المجموعة البريطانية العملاقة، على تسريب أسرار الحسابات البنكية المشبوهة إلى الصحافة، وفيها تظهر خدمات أخرى تقدمها البنوك إلى زبائنها البالغي الأهمية (VIP)، وفي مقدمة هذه الخدمات التهرب الضريبي وغسيل الأموال، والتكتم على حركة الحسابات البنكية. وأظهرت البيانات التي قدمها الموظف السابق إلى جمعية الصحافيين المتخصصين في التحقيق، أن هناك 11 ألف شخصية عربية اختارت هذا البنك، واختارت الخدمات التي يقدمها.

ما هي آثار هذا "السكوب" الصحافي العالمي؟ وماذا سيبقى منه، بعد أن تطفأ الأضواء، وتهدأ الضجة؟

أولاً: كشفت هذه الفضيحة حقيقة مهمة، هي أن قضية الشفافية، والحق في الوصول إلى المعلومات، تربح، كل يوم، جولة في معركة طويلة، وأن النظام البنكي، وعلى الرغم من قوته وجبروته، قابل للاختراق، وأن هناك، دائماً، أشخاصاً وضمائر تؤمن بحق الناس في أن تعرف، وأن تحطيم جدران الصمت، التي تحمي رؤوس الأموال القذرة، يمكن تحطيمها من أجل وضع الأغنياء والمشاهير وأصحاب السلطة أمام حقيقتهم، ووضع سلطة المال أمام حدود القانون.

ثانياً: هذان، السبق الصحافي والتحقيق الكبير، يظهران إلى أي حد تحتاج الديمقراطية إلى صحف ومجلات ووسائل إعلام حرة ومستقلة ومتحررة من قيود السلطة، وأغلال رأس المال. أبطال الفضيحة، اليوم، التي تهز العالم صحافيون، ومصدر معلوماتهم شخص تحرك ضميره، وقرر أن يخرق حجاب الصمت، فأعطى كنزاً من المعلومات للصحافيين وأعضاء هيئات تحرير امتلكوا الجرأة لينشروا أسرار الكبار، ولم يمنعهم الخوف من المحكمة، أو من أصحاب الإعلانات، أو من ضغوط المساهمين في رأسمال شركاتهم، من نشر الحقيقة، كل الحقيقة، وترك المجتمعات والبرلمانات والرأي العام أمام واجباتهم وضمائرهم.

ثالثاً: هذه الفضيحة التي انفجرت في أحد أكبر البنوك العالمية ستهز عرش المؤسسات المالية التي استغلت العولمة وسقوط الحدود واتساع السوق وضعف الرقابة وفساد السياسيين، لتفرض قوانينها على الجميع، دولاً ومجتمعات. بدأ النقاش في بريطانيا، حيث وجهت المعارضة اتهامات خطيرة إلى حكومة ديفيد كاميرون التي عينت، قبل أشهر، المدير السابق لبنك "إتش إس بي سي"، ستيفن غرين، في مجلس اللوردات، ثم أوكل إليه كاميرون حقيبة وزير التجارة. اتهم حزب العمال كاميرون بالتقاعس عن محاربة التهرب الضريبي، وتشجيع البنك المتهم من خلال إعطاء مناصب حساسة لمديريه.

ستتغير قوانين كثيرة في أوروبا، وستربح إدارات الضرائب في أوروبا مليارات الدولارات، ومعها وسائل جديدة لملاحقة المال القذر، وتتبع جرائمه وتجاوزاته…

في أميركا، وبعد انهيار عدد من البنوك في خضم الأزمة الاقتصادية لسنة 2007، خرجت نكتة تقول: "اللص الحقيقي ليس من يسرق بنكاً.. اللص الحقيقي هو من يؤسس بنكاً". كانت هذه نكتة، ويبدو أنها الآن حقيقة…

A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.