نكبة القباب... الحكاية الأصلية لتهجير عام 1948

06 يوليو 2020
يحتفظ بمفتاح منزل أهله بعد أكثر من 70 عاماً على التهجير (علي جاد الله/ الأناضول)
+ الخط -

تتشابه قصص تهجير الفلسطينيين في عام النكبة، لكنّ أحداث 1948 إذ تحفظها الذاكرة وتنقلها من جيل إلى جيل تشدد على حق الأهالي في العودة إلى حقولهم ومنازلهم وإن دمّرت. حكاية قرية القباب في قضاء الرملة، واحدة من تلك القصص الموجعة

تقع قرية القباب في قضاء الرملة في فلسطين، تحديداً بين مدينتي يافا والقدس، وتحدّها من الغرب قرية اللطرون المهجّرة عام 1948 ومن الجنوب قرية أبو شوشة المهجّرة ومن الغرب مدينة الرملة. كان عدد سكّانها ابان نكبة 1948 نحو 2300 نسمة، معظمهم عمل في الزراعة وتربية المواشي التي كانت تباع في سوق الرملة ما قبل النكبة مثل باقي قرى القضاء الغنية بالمحاصيل الزراعية المختلفة.

 

في حديث لـ"العربي الجديد" مع محمود ياسين، ابن الجيل الثاني للنكبة والذي ولد في عمّان عام 1971، يقول إنّ قصة عشقه لأرض فلسطين بدأت حينما كان طفلاً يتساءل لماذا ولد في مخيّم ويعيش حياة بائسة ومزرية وليس في قرية أو مدينة مثل بقية البشر: "كنت دائماً ألحّ بالأسئلة على أهلي بسبب حب الاستطلاع عن حياتنا التي نعيشها وعن سبب وجودنا في مخيّم وليس في قرية أو مدينة منظّمة ومريحة، وبما أننا عشنا في زمن لم يكن فيه للإنترنت والقنوات الفضائية وجود، كنا نشاهد التلفزيون لوقتٍ محدودٍ، ثم نسأل أهلنا عن قرية القباب التي عرفنا منهم أنّها كانت قريتهم وأنّها كانت عامرة حتى عام النكبة".
يضيف: "أهلنا سردوا لنا تفاصيل الحياة في القباب، إذ كانت العيشة شبه مشتركة، وكان الجميع يعملون ويحرثون معاً، ويتشاركون في الأفراح والأتراح كباقي القرى الفلسطينيّة، ولا يفترقون إلا في الليل، عندما تذهب كلّ أسرة إلى بيتها لقضاء ساعات النوم". يشير إلى أنّ والده الراحل كان يمضي وقتاً في الحراسة خلال الليل، تخوفاً من هجمات اليهود ما قبل النكبة. يتابع أنّ عائلة جده المكونة من أربعة أشقاء قررّت أن تُرسل أحدهم للتعلّم وذلك بسبب عدم تمكنه من الفلاحة والحراثة. وهكذا أصبح أخ جدّه متعلماً وتخصص في تخمين الأراضي في زمن الحكم الإنكليزي لفلسطين، ما سهّل عليه إدارة أموال العائلة الموسّعة التي وكّلته بالتنظيم الإداري، كما تمكن من بناء بيت فاخر عام 1939 بسعر 7500 جنيه فلسطيني، وهو سعر غير معتاد في تلك الأيّام، وبقي البيت قائماً حتى اليوم، إذ يستغله مستوطنو مشمار أيالون، كمكاتب للسكرتاريا.
يتابع ياسين أنّ أهالي قرية القباب وُعدوا بالعودة إليها بعد بضعة أيام، لكن جرى تهجيرهم شرقاً نحو قرية كفر نعمة في قضاء رام الله، وهناك توفي جدّه. واستمروا بالنزوح ووصلوا إلى أريحا، تحديداً مخيم النواعمة وبقوا هناك حتى عام 1967. في تلك الفترة عمل والده في رصف الشوارع. من بعدها، هجّروا إلى العاصمة الأردنية عمّان وسكنوا في مخيّم الحسين بعدما سكنوا في أكواخ موقتة لفترة قصيرة. وهكذا مرّت عائلة ياسين في النكبة (التهجير والنزوح) والنكسة (اللجوء خارج الوطن الفلسطيني) مثلها مثل مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين مرّوا في أسوأ الظروف إثر سقوط فلسطين على مرحلتين.
عن الحياة المجتمعية قبل النكبة، يذكر أنّ أهل القرية اعتمدوا على استيراد البضائع في الأوقات التي لم تكن الأرض فيها تنتج المحاصيل المطلوبة (سمسم وذرة وشعير)، فاضطروا لشراء بضائع من ميناء يافا ليبيعوها في أسواق يافا والرملة واللد وأحياناً القدس ونابلس، وذلك لسد الحاجة الماديّة والنقص في المنتجات الزراعيّة. يضيف أنّ قرية القباب كانت مشهورة في صنع الجبنة التي كانت ذات جودة عالية واشتهرت في سوق الرملة آنذاك، كما انتشرت طريقة المقايضة بين القرويين وذلك لعدم توفر العملات بكمية كبيرة، فكان التاجر يبدّل المنتجات وأيّ شخص كان في إمكانه أن يشتري منتجات من خلال المقايضة.
كتب أحد مراسلي صحيفة "نيويورك تايمز" أن قوات الهاغاناه استولت على القباب، في محاولة لإعادة فتح الطريق العام المؤدي إلى القدس، في 15 مايو/ أيار 1948 يوم انتهاء الانتداب البريطاني. وفي الوقت نفسه، استولت هذه القوات على قرية بيت دجن التي تقع على قسم آخر من طريق يافا- القدس العام. لكنّ الهجوم تطابق أيضاً مع عملية براك التي أدت إلى احتلال قرية أبو شوشة في اليوم نفسه. يؤكد المؤرخ الإسرائيلي بني موريس هذا التاريخ، لكنّ "تاريخ حرب الاستقلال" يجعل احتلال القباب بعد أسبوعين على الأقل؛ إذ يقول إنّها وقعت في قبضة لواء يفتاح في أوائل يونيو/ حزيران خلال محاولة لتضليل القوات العربية في إبان إحدى المعارك التي دارت حول اللطرون. وهو ما يوافق ما جاء في تقرير لوكالة "أسوشييتد برس" في 7 يونيو، ذكر أنّ الجنود الإسرائيليين قد استولوا على القرية.
تباين الروايات في شأن تاريخ احتلال القرية يوحي بأنّ القبضة الإسرائيلية لم تكن محكمة بعد الأسبوعين الأولين من الاستيلاء عليها. وفي الشهر اللاحق بات التحكم فيها أشدّ، إذ نقلت "نيويورك تايمز" في 11 يونيو خبراً فحواه أنّ الفلسطينيين الهاربين من جرّاء الهجمات على منطقتي اللد والرملة، اضطروا إلى الرحيل بقوافل الجمال نحو رام الله، لأنّ الإسرائيليين كانوا قد قطعوا الطريق الرئيسي عند القباب.
اليوم، تكسو الغابات ذلك الجزء من الموقع الكائن في الجهة الشمالية من الكيبوتس، فلم يبقَ من معالم القرية إلا المدرسة، وبضعة منازل لها أبواب ونوافذ مستطيلة الشكل، ويقيم الإسرائيليون في بعضها. أحد هذه المنازل مستطيل، وله بابان ونافذة عالية ونافذتان صغيرتان أخريان، إحداهما في جانبه والأُخرى في واجهته. ومن المنازل الآهلة الأُخرى منزل ذو زوايا، وفي فنائه الأمامي شجرة باسقة. وأحد المنازل المستعملة لتخزين المعدات والتجهيزات الزراعية مستطيل الشكل، وله أربعة مداخل ونافذة عالية. ومنزل آخر، يُستعمل الآن متجراً، درج يؤدي إلى شرفة أمامية محاطة بحاجز من الأسلاك المشبكة. وتنبت في أرض الموقع أنواع من الأشجار والنباتات، كالكينا والخروب والصبّار وذيل الفار. أمّا الأرض المحيطة فزرعت لوزاً وزيتوناً.


في 13 سبتمبر/ أيلول 1948، طلب رئيس الحكومة الإسرائيلية ديفيد بن غوريون الإذن لتدمير 14 قرية، وفي جملتها القباب، من لجنة إسرائيلية خاصة أُلفت لهذا الغرض. وقد جاء الطلب باسم الجنرال تسفي أيلون، قائد الجبهة الوسطى. وقد أنشئت مستعمرة غيزر، على ما كان تقليدياً من أراضي القرية. ثم أنشأ مهاجرون صهاينة من تشيكوسلوفاكيا مستعمرة مشمار أَيَالون على أنقاض القباب، في سنة 1949. ولاحقاً أنشئت مستعمرة كفار بن نون، في سنة 1952، على أراضي القرية أيضاً.