نقطتان حاسمتان في الوضع السوري

03 نوفمبر 2014

لاجئون سوريون يتظاهرون في مخيم الزعتري دعماً للثورة (18مارس/2014/الأناضول)

+ الخط -

نقطتان كنت أفكر فيهما منذ بداية الثورة السورية، احتمالات الموقف الأميركي، وحالة القوى السياسية السورية. كنت أعتبرهما المفصليتين في تقرير مصير الوضع في سورية، إما من خلال فاعلية إحداهما أو عبر فاعليتهما معًا. فقد كنت مقتنعًا بأن قدرة الثورة على تشكيل حالة مركزية متماسكة ضعيفة بحكم عوامل عديدة، وأصل في الحصيلة إلى شيء من التشاؤم، بعد تحليل النقطتين.

في الأولى، كنت أرى أنه لا حاجة إلى أن نتعب أذهاننا كثيرًا لاكتشاف أن أميركا ليست في وارد التدخل لمصلحة الثورة السورية. وبالطبع، ليس المقصود بالتدخل الهجوم العسكري المباشر، فهذه الدولة الكبرى يمكنها أن تقوم بأدوار مختلفة، إن أرادت، لمصلحة أي تغيير ترى أنه يتوافق مع مصالحها السياسية والاقتصادية. أما الأسباب الكامنة وراء ذلك فهي: رغبة الولايات المتحدة في ذهاب الأمور في سورية نحو المجهول، استمرار تحطيم الدولة السورية على يدي السلطة الحاكمة، النظام السياسي في سورية براغماتي ويمكن التفاهم معه، ولم يشكل حالة إرباك طوال أربعة عقود لإسرائيل؛ الإدارة الأميركية الحالية جاءت ببرنامج لسحب الجيش الأميركي من العراق وأفغانستان، وليست في وارد توريط القوات الأميركية في حرب جديدة في المنطقة، سورية تشبه العراق في تنوعها الإثني والديني، وستكون مربكة، عدم وجود مصالح أميركية اقتصادية مباشرة في سورية، وعدم وجود نقاط ارتكاز أميركية في المجتمع السوري، ولدى القوى السياسية والاقتصادية، سورية محاطة بدول هشة كلبنان والأردن، وأي تغيير في سورية يعني فوضى محيطة، يمكن أن تؤثر على جيرانها، وعلى إسرائيل.

للأسف، كان هناك اتجاهان مضللان في ما يسمى "المعارضة السورية"، سيطرا على الخطاب الإعلامي في تنافس مقيت، على الرغم من قراءتهما السياسية الخاطئة معًا، فكلاهما اعتقدا أن أميركا ستتدخل، عاجلًا أم آجلًا، وانتحلا خطابًا موازيًا لهذا الاعتقاد، إما لجهة رفض التدخل أو المطالبة به. والاتجاهان متساويان في الخفة السياسية، أحدهما شعبوي والآخر أيديولوجي، فيما كان النظام السوري متيقنًا ومطمئنًا من عدم نية أميركا في التدخل، وهذا هو السبب الرئيسي لإمعانه في العنف والجرائم ضد الشعب السوري، قبل الدعم الروسي الإيراني والميليشيات الداعمة الأخرى. فالسلوك الأميركي كان، دائمًا، بوصلة النظام السوري في سلوكه وممارساته، فمن دون قرار أميركي بإسقاطه، ستكون جميع تحركات ما يسمى "مجموعة دول أصدقاء الشعب السوري" لا قيمة لها في المآل.

أما عن بنية المعارضة السورية، فقد كانت قواها مهشمة لحظة انطلاق الثورة، داخل سورية وخارجها. أما تلك الموجودة في الداخل، فتتكون من قوى هشة، منقطعة عن ممارسة السياسة منذ زمن بعيد، وليس لها امتداد في المجتمع السوري، ومنقسمة على نفسها لاعتبارات شخصية أكثر منها سياسية، ولا يوجد حوار حقيقي بينها، وتتمترس خلف شعارات بالية، بعض قواها فقير الطموح ومهتم باعتراف النظام بوطنيته، وتأقلم مع العمل في إطار معارضة النظام القائم فحسب. قوام هذه المعارضة قوى أيديولوجية، ناصرية وقومية ويسارية، تخثرت عند مرحلة معينة، وتقارب الواقع من خلال ما ورثته من شعارات، وليس عبر التعاطي مع معطياته وحقائقه.

خلال الثورة التي اجتاحت كل شيء، لم يبق من هذه المعارضة سوى شخصيات محدودة العدد، تتمترس خلف "ماركة الاسم" الذي صنعه الإعلام، ولم تصنعه الفاعلية، وقد سترت عوراتها السياسية بمصطلح "المعارضة الداخلية"، الذي كانت تكرره في كل مناسبة، وكأن هذا الأمر بحد ذاته يمنحها الحصانة والأولوية، متجاهلة أن القضية الأساسية هي الثورة وليست المعارضة، وأن مصطلح المعارضة بذاته لم تبق له أية قيمة بعد انطلاق الثورة. تدريجيًا، تحولت هذه المعارضة إلى عصبة مغلقة، بحكم إحساسها بالمظلومية إزاء المعارضة الموجودة في الخارج، ومارست نمطًا مضحكًا من التفكير "تفكير الجكارة"، ظهر في مواقفها السياسية الغريبة إزاء الحوادث، والبعض القليل الذي لا يزال مرتبطًا بها، له أسبابه الشخصية والذاتية، وليس السياسية.

انتحلت هذه المعارضة خطابًا باهتًا، ومتعاليًا على الناس، ويفترض الهزيمة سلفًا أمام النظام القائم، ولم تكن مطالبها وطموحاتها في الجوهر تتعدى ما هو مطروح من فتات من النظام، على الرغم من اضطرارها، في بعض اللحظات، إلى استخدام مواقف جذرية كلاميًا مع بعض التلاعب في المفردات، بما يبقيها في وضع آمن، على الرغم من أن النظام لا يكترث بخطابها. وتعاملت بانتهازية فاضحة مع إدراكها حاجة النظام وأصدقائه المؤقتة إليها في محاربة الذين يدعون إلى إسقاطه في الخارج، واندرجت في علاقات سياسية مع أغلب أصدقاء النظام السوري، معتقدة بسذاجة أنه يمكن لها التأثير في سياساتهم.

أما المعارضة الموجودة في الخارج، فقد انتحلت خطابًا غوغائيًا، تكمن أسبابه، أساسًا، في الجهل والفقر المعرفي وعدم الدراية السياسية، فضلًا عن محرك "الحقد" على النظام، من دون الانتباه إلى المقولة الصائبة "الحقد موجه سيىء في السياسة". وظهرت السياسة ضامرة في خطابها، الذي اقتصر على ترديد مقولات الشارع، في حالة أقرب ما تكون إلى "البلاهة السياسية"، إذ قامت بأدوارها من خلال اللعب على العواطف والصوت المرتفع والجعجعة، مستخدمة ذلك بخبث لاستبعاد الآخرين، والاستئثار بصفة تمثيل الثورة. كما أسبغت هذه المعارضة سمة "الإسلاموية" على الحراك الشعبي، وهي تعلم أن ذلك لا يتوافق مع طبيعة المجتمع السوري، واندرجت مواقفها وممارساتها في سياساتٍ خليجية، قطرية وسعودية، وظهر أنها فاقدة الإرادة والاستقلالية، فضلًا عن انغماس بعض شخصياتها في الفساد المالي.

لم تكن أي من تلك التشكيلات السياسية، منذ البداية وحتى اليوم، صادقة فيما يخص "وحدة المعارضة"، بما يشكل بوصلة سياسية رزينة للحراك الشعبي، وعدم إفساح المجال للنظام للعب على خلافات المعارضة، وتطمين الشارع السوري بإمكانية وجود كتلة سياسية قادرة على إدارة فترة انتقالية، وإيصال رسالة إلى العالم بوجود بديل مناسب للنظام مرحليًا ومؤقتاً. وظهر ذلك في لهاث الجميع وراء الإعلام، الذي لعب بالمعارضتين، داخل سورية وخارجها، وفي حملات التشهير الدائمة على مستوى الكتل السياسية والأفراد، وفي ظاهرة الأفراد الذين وضعوا أنفسهم فوق الجماعة والبلد والثورة، فقد ظهر في لحظات عدة، أن التنازع على المواقع القيادية ونسب التمثيل هو جوهر الخلاف بين جهات المعارضة قاطبة، مما يدل على قصر النفس وعدم الثقة بالذات والجهل بمسارات التاريخ، الأمر الذي منعها من إدراك أن التشكيلات السياسية كافة مؤقتة، ستتعرض لعمليات هدم وبناء متوالية، وأن ملامح البشر والقوى الفاعلة لن تتشكل إلا في ظل استقرار الوضع في سورية، وأن المستقبل سيأتي، بالتأكيد، بتشكيلات مغايرة. والأهم أنه، خلال الثورة، ظهرت لا مبدئية جميع هذه التشكيلات. واليوم، أصبح الأمر كله خارج نطاق الإقناع الفكري السياسي، فلكثيرين مصالح شخصية، أو فئوية، أو حزبية، يدافعون عنها ويتمترسون خلفها.

كنت، ولا أزال، مقتنعًا بأن هذه التشكيلات تحولت إلى عقبة حقيقية في وجه المستقبل السوري، وأنها، بوضوح، تستحق أن ترمى في المزبلة، نهجًا وسلوكًا وأداء ومواقف، فقد كان نتاجها في الداخل والخارج، بالمقياس العلمي، ما دون الصفر بدرجات كثيرة. أما "القوى السياسية" الجديدة، التي تشكلت مع الثورة، فهي ليست أكثر من فقاعاتٍ بنيت على عجل، ولا تحتوي سوى على حفنة من الأفراد، ولا يبدو عليها التماسك والقابلية للاستمرار.

هنا، يتبادر إلى الذهن مباشرة السؤال: ما الحل؟ هل نأتي بقوى وشخصيات سياسية من المريخ؟ أعتقد، في اللحظة الراهنة، أن الوضع السوري رهينة الموقف الأميركي فحسب، ولا تأثير للتراكيب (أو بالأحرى الكراكيب) المعارضة الموجودة، التي سيكون مصيرها الانحلال والاضمحلال، عاجلًا أم آجلًا. لكن، إذا أردنا أن يكون لسورية والسوريين مستقبل جديد كما نشتهي، فعلينا إدارة الظهر لهذه "الكراكيب"، والذهاب نحو بناء قوى سياسية جديدة أساسها الفكر، والسياسة المبنية على عمق ثقافي، والإدارة والتنظيم اللذان يشكلان عصب المؤسسات الحديثة الناجحة، فهذا وحده ما يمكن أن يفتح الباب لنكون مؤثرين نسبيًا فيما يخطط لسورية.

F70810A4-198B-4090-97EA-EE7A79D73F16
F70810A4-198B-4090-97EA-EE7A79D73F16
حازم نهار

كاتب وباحث ومترجم سوري، رئيس تحرير مجلة "المشكاة"، فكرية حقوقية فصلية، من مؤلفاته، مسرح سعد الله ونوس، والتأخر في المجتمع العربي وتجلياته التربوية في العائلة والمدرسة، ومسارات السلطة والمعارضة في سورية.

حازم نهار