نقش على "حجر الذاكرة"

20 مارس 2020
+ الخط -
تسع سنوات عجاف مرّت على شعب سورية، جفّ فيها الضرع ويبس الزرع. وحده الدم المسفوك من الوريد إلى الوريد ينزف في كل المواسم. ملايين الضحايا بين قتيل وطريد. لم يتبق من وطنٍ كان سوى آلام تسكن الجسد كشظايا قذيفة، وبقايا ذكريات تنكأ جراحاً لا تندمل. في نص "ليس رواية، وليس سيرة ذاتيّة، وليس تأريخاً لزمن ما، بل أنين روح مواطن سوري يحتضر"، يقدح الكاتب السوري، المعتقل السابق، بسام يوسف "حجر الذاكرة"، في رواية صدرت عن مركز حرمون للدراسات المعاصرة ودار ميسلون للطباعة والنشر (2018). ويحدثنا، بلغة تلقائية سَلسة، عن السجن، لا بوصفه حيزاً "للتعذيب، والجوع، والمرض، والموت، وكل تلك التفاصيل، التي تجعل من السجون السورية واحدةً من أبشع السجون التي عرفتها البشرية، ولكن بوصفه فضاءً ل "اختراع حياة، نصوغها كما تستطيع ذاكرتنا أن تفعل: نخترع شخوصاً ونحبهم، أو نكرههم، وربما نقتلهم، ونخترع مطارح ومعارك ننتصر فيها أو ننهزم، لأن من لا يتقن اختراع الحياة في السجن؛ يسحبه اليأس إلى لجّة الموت".
ينبش الراوي ذاكرته، منذ خطفه جِنّيٌ من أُلفة الحياة اليومية، وطار به إلى عالمٍ متخمٍ بالعنف والقتل، عالم شديد الاختلاف، لا شيء فيه، تصمت فيه أصوات الحياة، ويغيب عنه حضور الضوء ولون السماء. مروراً بكل أصناف التعذيب والإهانات التي مرّ بها بين غرف التحقيق في "فرع فلسطين" الأمني، حيث لا يُظلم الناس "ولكن كانوا لأنفسهم ظالمين"، إلى الإصابة بالجرب في مهجع مقر التحقيق العسكري، وصولاً إلى العزل الانفرادي في سجن صيدنايا الذي نهش عشر سنواتٍ من حياته. يكشف الراوي وجه السجن الآخر، "ذاك الذي لا يمكن للكتابة أن تقوله، ولا يمكن للحديث أن يدنيه؛ فيجعله مفهوماً، إلى حدٍّ يمكن القول عنده: إنه قد صار واضحاً. إنه الوجه الذي لا يمكن إدراك جوهره إلا بمعاناته عبر تجربته، تلك التجربة التي كلما امتدّت، كشفت عن وجوه وألسنة مردومة.. ولكن، أية تجربة، أو أي معرفةٍ تلك التي تستحق أن تلج الجحيم من أجلها". في عمله الإبداعي، وبكلمات تفيض حسّاً، يكشف بسام يوسف عن جوانب أخرى، غير مرئية، قاساها، ويقاسيها، معتقلون في عتمة سجون النظام. يتحدّث بروح شفافة عن زمن قياسي تسبق لحظاته "انزلاقك إلى هوة الموت، حينما كل ما يربطك بالحياة، هو: رؤوس أصابع قدميك، التي تسند جسدك المعلّق، فتمنعه من الانزلاق على حبل موتك المشدود على عنقك".
كدأب السوري الذي اعتاد على اشتقاق الحياة من جوف الموت، لا يغرق بسام يوسف في عتمة المكان، ولا تحتل بشاعة الأحداث ذاكرته، فيقدح منها حكاية وطنٍ موجعة حتى آخر حدود الوجع. يروي مواقف صعبة، عاند فيها السقوط في قبضة مَلك الموت، ولحظات أخرى انتصر فيها على وسواس الهزيمة الخنّاس، وما بينهما يحكي عن لحظات راقص فيها ملائكة الحياة، بالخيال والحلم. في السجن، تتغير نكهة الأشياء، يصبح قرص الفلافل بحجم وليمة، وتفوح القهوة من ركوةٍ صغيرةٍ تروي مزاجاً عكّره وسخُ السجّان. يفرح السجين لأصغر الأشياء، ويضحك على أسخف المواقف. يختلف المسجونون حول التاريخ، وربما يختلفون حول المستقبل، لكنهم يتحالفون على وليمة علبة سردين وحبّة بندورة. يمارس المسجونون بين ظهراني السجانين ديمقراطيةً حرموا منها في حضن الوطن، ينتخبون "لجنة تتولى إدارة موارد الجناح، تستلم المواد القادمة بالزيارات وتنظم صرفها، تحدد عدد السجائر لكل سجين في اليوم"، تنتخب اللجنة دورياً، لا مكان في السجن للبيعة أو التوريث أو التمديد.
ما بين سؤال أمه "لوين ما خدينه"، يوم اعتقاله في العام 1988، وسؤال ابنه "وين نحنا بابا"، يوم وصلا إلى منفاهما في السويد قبل ست سنوات، يروي بسام يوسف حكاية ناس من لحم ودم، أثبت السوريون، عبر فصولها المُرّة، أنهم الأقوى على اختراع حيواتٍ من رماد الموت، ففي الحياة، كما في السجن، يُحظر إدمان اليأس، بتعبير راوي "حجر الذاكرة".
AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.