نقاش: هل الخلاف في الصف الواحد؟

24 اغسطس 2015
+ الخط -
شكراً للدكتور خضر زكريا الذي تدخل، بمقال في "العربي الجديد" (19 أغسطس/آب 2015) في نقاش ثنائي، لكي يعطي الحوار بعداً أوسع مما ينحصر فيه، وشكراً له على ملاحظاته، وعلى محاولته توضيح بعض الالتباسات. أقدّر رأيه وأحترم محاولته تجاوز التناقضات "في الصف الواحد". لكن، لدي ملاحظات، توضيحية وأخرى سجالية، آمل أن تحظى بالاهتمام.
أولاً، يعتبر الدكتور زكريا أن النقاش بيني وبين محمد الحاج صالح يجري بين "أصحاب الأيديولوجية الواحدة". لا أعرف فيما إذا كان صالح ينطلق من منظور ماركسي، المنظور الذي أنطلق منه. لكن، لم تعد للتسميات معنى، فليس من يعتقد أنه ماركسي ماركسيا بالفعل. المسافة كبيرة بين الادعاء والواقع، وهذا ظاهر لدى كل التيارات التي تدّعي أنها ماركسية أو يسارية. من جهتي، أميّز بين من ينطلق من المنهجية الماركسية التي هي الجدل المادي ومن يقول أنه ماركسي ولا يستخدم هذه المنهجية. فبالنسبة لي، ليس ماركسياً من لا ينطلق منها، ومن يبقى منحكماً للمنطق الصوري. لهذا، للخلاف مع محمد الحاج صالح أبعاد لا تشير إلى "أصحاب الأيديولوجية الواحدة"، بل إلى خلاف أيديولوجي، وطبقي بالتالي. هذا ما حاولت توضيحه في ردودي على صالح.

ثانياً: لم أشر إلى صادق جلال العظم جزافاً، أو نتيجة قلة قراءة لما يكتب أو يقول، بل نتيجة معرفة بما يكتب أو يقول، فقد أشار، في ندوة في باريس في 2013 (أظن أنها نشرت في مجلة "أوراق" التي تصدرها رابطة الكتاب السوريين التي يرأسها) إلى نقد الغرب الذي يدافع عن حقوق الأقليات، بينما يتعلق الأمر بحقوق الأغلبية (وهي كما هو واضح الأغلبية السنية). واعتبر أن المشكلة تتحدد في حقوق الأغلبية السنية هذه. وقد كرر ذلك في مواضع عديدة. طبعاً أعرف أنه يتحدث عن نظام مافياوي استبدادي، لكنه في بعض ما كتب أظهر أنه ينطلق من هذا الفهم. وربما كان حديثه عن "العلوية السياسية" استمراراً لذلك. وحين أشرت إلى الدكتور صادق، كنت أشير إلى أمرٍ هالني، وجعلني أتلمس المنحدر الذي نعيشه، والذي أفضى إلى تضخم دور القوى الأصولية.
وأشرت إلى كتاب برهان غليون (بيان من أجل الديمقراطية)، لأنه أثّر في جيل من أعضاء "الحزب الشيوعي – المكتب السياسي"، ومن النخب السورية. والذي ينطلق، بوضوح، من فهم الأغلبية والأقلية من منظور ديني. ما وددت الإشارة إليه أن "النخب" لازالت تلامس المسألة الطائفية، من منظور غير علمي، وهذا ما بات يحكم قطاعاً متسعاً ممن يعتقد أنه مع الثورة، حيث وصل الأمر إلى تبرير سياسات داعش والنصرة وجيش الإسلام والإخوان المسلمين، واعتبار أن الثورة "سنية"، بالتحجج بعدم مشاركة العلويين. وهو منظور لا شك يدمر الثورة السورية، بعد أن تقلّص فعلها نتيجة سيطرة القوى الأصولية، ويعطي الغطاء لهذه السيطرة الأصولية، بينما في الواقع لا بد من مواجهتها.
ثالثاً: يا صديقي، لم أبحث في البنية الاقتصادية الطبقية فقط في كل ما كتبت، ولست ممن ينطلق من منظور اقتصادوي، المنظور الذي حاربته منذ زمن بعيد. لكن، يتعلق الأمر بتحديد الأساس، ومن ثم فهم مجمل العناصر الأخرى. لهذا، لم يغب عن ذهني لعب النظام بالمسألة الطائفية. ومنذ بدء الثورة السورية، نبهت إلى أن النظام يريد إخافة العلويين والأقليات عموماً، بالتالي، يجب عدم الوقوع في هذا الشرك. لكن، ما هو مختلف عليه هو هل أن "الأساس الطائفي" للنظام هو الذي يحدد سياساته، أو أن الأساس الطبقي له هو المحدِّد؟ يُشار، في الماركسية، إلى أن لكل وعي أساسا طبقيا، وبالتالي، قبل معرفة الوعي، يجب معرفة الأساس الطبقي، لأن الوعي نفسه يمكن أن يكون زائفاً، أو أن يكون مطابقاً. وبالتالي، إن فهم الأساس الطبقي هو الذي يحدد طبيعة الوعي.

في سورية النظام عائلي مافياوي، فإذا أردنا أن نعيد تحليل بنيته سنجده، في الواقع، نظاماً بطريركياً، كان الرئيس السابق ينطلق فيه من أن سورية ملكية وراثية له، لهذا ورّثها لابنه. ويتناقض هذا المنظور مع المنظور الطائفي بالضرورة، بالضبط لأنه ينطلق من العائلة (أو القبيلة)، وليس من الدين والطائفة. لهذا، لم أهمل العناصر الأخرى التي يتشكل النظام منها، لكنني فهمتها في سياق الأساس الطبقي الذي يحكمها. وهنا، لا يشير اعتماد النظام على أفراد من الطائفة العلوية إلى أنه نظام طائفي، فلهذا الاختيار تفسيرات أخرى، حاولت أن أشير إليها في ردي على صالح، فالبحث السوسيولوجي يمكن أن يفسّر اعتماد النظم ذات الخلفيات الريفية على أفراد من البيئة نفسها، حيث تنحكم العلاقة للمنطقة والقرابة والعلاقة الشخصية، وليس إلى أي شيء آخر.
رابعاً: يقودنا هذا إلى الطائفية. في كل النقاشات يجري القفز عن تحديد معناها، وبالتالي، يجري الاعتماد على المنظور الشكلي (يتمثل بوجود أفراد من الطائفة) للقول بطائفية النظام. وفي ردي على صالح (وفي كتابات أخرى) حاولت تحديد المعنى الذي أراه علمياً في تحديد الطائفية، فليست خلفيات الأفراد هي التي تحدد ذلك، وإلا اعتبرنا نظام صدام حسين سنياً، وكذلك أنظمة أخرى. الطائفية هي التمسك بأيديولوجية طائفة (أو دين طبعاً) والانطلاق من منظورها في التعامل مع الآخرين. فحزب الله طائفي لأنه ينطلق من منظور شيعي، ويتأسس على أساس هذا المنظور، وبالتالي، يميّز بين الناس على أساس ذلك. والإخوان المسلمون كذلك، وقوى كثيرة تأسست في ضوء أيديولوجية دينية أو طائفية.
في سورية، يعتمد النظام على فئة من العلويين، هم "أهل الثقة"، وقد بات هؤلاء يسيطرون على الأجهزة الأساسية في الدولة، وأسس منهم "البنية الصلبة" التي تحمي السلطة. ذلك كله صحيح، ويمكن أن نضيف أكثر. لكن، ليست الأيديولوجية الطائفية هي التي تحكم. ولهذا، يفتح النظام على المؤسسة الدينية "السنية"، ويسهّل بناء الجوامع، ويقوم بتعميم الأصولية "السنية"، ويلعب بـ "الجهاديين"، بالضبط كما يفعل مع الطائفة العلوية. ماذا نسمي ذلك؟ طائفية؟ هنا بالضبط يجب العودة إلى الأساس الطبقي، وفهم مصالح الفئة المسيطرة، وبالتالي، كيف تستفيد من الطوائف والأديان، والإثنيات والعشائر، وكل تشقق في المجتمع، من أجل أن تبقى الطبقة المسيطرة مسيطرة. فقد استغل فقر العلويين لبناء "البنية الصلبة"، لكنه اخترق "الجهاديين" ودعمهم، ووسّع من دور المؤسسة الدينية (التي هي سنية)، وذلك كله من أجل السيطرة على المجتمع.
هنا، يكون الطبقي هو الأساس، ولا بد من تلمس السياسات التي يتبعها النظام لفهم كيف يسيطر على المجتمع. طبعاً لم أتجاهل ذلك كله، لا قبل الثورة ولا بعدها، لكي أقع في "تحليل اقتصادوي". لكن، لا ينبغي تجاهل الأساس الطبقي الذي هو الجوهري في كل تحليل ماركسي، وفهم علمي للواقع. وهذا الذي يميّز التحليل الماركسي من التحليل المثالي الصوري. وهنا، تكمن الخلافات القائمة في ما كان يسمى اليسار.