نقاش جديد.. الاقتصاد والسياسة
أصرّ الأستاذ حسين عبد العزيز على الرد من جديد، مؤكداً على الفكرة نفسها: ضد الاقتصاد (العربي الجديد 3/3/2015). في رده مستويان: نظري، وآخر يتعلق بالثورات العربية. وسنلمس أن بينهما مساحة من الخلط النظري، والهروب من الوقائع، أو لوي تفسيرها.
فأولاً للأستاذ حسين الحق بأن ينطلق من تعدد الأسباب في فهم الظواهر، فهذه وجهة نظر منهجية يتبعها باحثون كثيرون. لكن، في الأخير تتعلق المسألة بما هي المنهجية التي تسمح بفهم الواقع بشكل أدق، فهماً علمياً. هذا أمر أول، ثم إن ذلك لا ينبغي أن يدفع إلى عدم التدقيق في الأفكار المقابلة. حدد حسين نقطة الخلاف بيننا في "محاولة تعميم الاقتصادي، وجعله السبب المباشر للسياسي بطرقة حتمية"، هل هنا مكمن الخلاف؟ وأصلاً ما الاقتصادي وما السياسي؟ تحدثت عن واقع الثورات، وأشرت إلى السبب المباشر الذي حرّك قطاعاً كبيراً من الشعب. هنا، حددت السبب المباشر. لكن، لست ممن يقول بالحتمية الاقتصادية، وخضت صراعاً ضد هذه الحتمية، في إطار التيارات الماركسية، منذ زمن طويل. فأنا أنطلق من أن الاقتصاد، حين نشير إلى الصيرورة العامة، هو المحدِّد "في التحليل الأخير"، وأن في الصيرورة عناصر عدة تلعب دوراً، وفاعلاً أحياناً، وربما حاسماً في أحيان أخرى. وهذه الفكرة هي ما طرحته الماركسية، وجهد إنجلز في توضيحها منذ البدء. لهذا، ليس مفيداً، ولا صحيحاً، القول إن ألتوسير أو غرامشي "حاول التخفيف من حدة الماركسية"، سواء عبر الإقرار باستقلالية البنى الفوقية النسبية
(حسب ألتوسير)، أو عبر مفهوم الهيمنة (حسب غرامشي)، حيث إن الفكرة المعادة إلى ألتوسير هي فكرة إنجلز، وألتوسير أغرق في تحويل الماركسية إلى "علم تاريخ". أما غرامشي فقال إنه في كتاباته ينظّر تجربة لينين. ولهذا، بلور التصورات حول المستوى السياسي.
ولا شك في أن إشارة الأستاذ حسين إلى مفهوم الهيمنة عند غرامشي تشي بالخلط الذي يحكم منطقه، حيث، أولاً، هو لا يرى أن السياسي والأيديولوجي لدى الطبقة الحاكمة هو من أجل الهيمنة على وعي الطبقات الأخرى، لخدمة السيطرة الطبقية التي تحقق مصالح تلك الطبقة. ولهذا، هي هيمنة على المجتمع من أجل الاستغلال الطبقي. لكن، ثانياً، تنظير البنية الفوقية وتحديد أثرها أمر مختلف عن لمس عنصر التأثير الرئيسي، حيث كما أشرت، تواً، يحدد الاقتصاد، في التحليل الأخير، ولهذا، تنبني الصيرورة على تفاعل عناصر متعددة. لهذا، حين الإشارة إلى الثورات، كان التركيز مني على نقص الوعي والتنظيم، وهذا نقطة ضعفها المركزية. وفي الثورة السورية، أشرت أكثر من ذلك إلى "عبء المعارضة"، وإلى الأثر السلبي لها ولدول إقليمية، ولغياب الوعي والتنظيم لدى الشعب. فالمفقرون لا بد لهم من بنية سياسية أيديولوجية، تعبّر عن مصالحهم، وهي هنا كما سماها غرامشي: الأمير الحديث (أي الحزب). وبالتالي، ليس السبب الاقتصادي كافياً لكي تنتصر الثورات، هو كافٍ لانفجارها فقط.
ثانياً، وإذا كان الأستاذ حسين يتناول ألتوسير وغرامشي، عبر ملخصات آخرين كما يبدو، فإن استشهاده بصمويل هنتنغتون يشير إلى عدم التدقيق في وضع البلدان التي تناولها، وماذا كان يمثّل هنتنغتون في تنظيره الذي يستشهد به. فهو يبرر لدعم أميركا الاستبداد في أميركا اللاتينية، حيث لم تدعم أميركا التنمية هناك. على العكس، دعمت نظماً دكتاتورية من أجل نهب القارة، والدراسات كثيرة في هذا المجال. وإذا كان يقول إن أميركا دعمت التنمية، لكي يقود بالضرورة إلى الديمقراطية، لكن ثبت العكس، فهو يضلل هنا، لأنه يقول عكس ذلك في أماكن أخرى، فقد أجاب على الردود على كتابه "نهاية التاريخ" إن ما قصده هو ما قاله ماركس بالضبط، أي أن التطور الاقتصادي يفرض حتماً انتصار الديمقراطية، في مقال نشر في مجلة فورين أفيرز قبل سنوات. لهذا، قلت إنه في حديثه عن علاقة الاقتصاد بالديمقراطية سابقاً كان يغطي على سياسات أميركا. إذن، لن أقف كثيراً أمام خطاب أيديولوجي يبرّر أكثر مما ينظّر.
ثالثاً، بالنسبة لما كتبه الدكتور عزمي بشارة، أظن أن الأمر يتعلق بلمس البعد السياسي في الثورة الاجتماعية، لأن السياسي مبنيّ على الاقتصادي، أو معبّر عن الاقتصادي. وهنا الفارق هو بين السبب الجوهري والأثر لمجمل العناصر، ومن ثم لكيفية تحقق السبب. فالأمر يتعلق بنقل المطالب المباشرة، الاقتصادية، إلى مطلب إسقاط النظام والاستيلاء على السلطة. وهنا، يلعب الأيديولوجي السياسي دوراً حاسماً، حيث لا تتحقق المطالب التي تطرحها الطبقات، إلا بتغيير الطبقة المسيطرة ونظامها السياسي. بالتالي، حين يشار إلى دور الاقتصاد في الثورات، يشار إلى السبب الذي يحرِّك الطبقات المفقرة، ويدفعها عفوياً إلى الثورة. لكن، لكي تنتصر الثورة بتحقيق تلك المطالب تحتاج إلى عناصر أخرى بالضرورة، وهذا ما ينقص كل الثورات في البلدان العربية. وهذا ما يشرحه هوبزباوم في النص الذي يقتطفه الأستاذ حسين، حيث الثورة تبدأ مطلبية "لكن، سرعان ما كشفت عن نفسها في المستوى السياسي". وكان غياب الأحزاب التي يقع عليها تحقيق السياسي هو سبب التعثر القائم. وإذا كان حسين يهمل أهمية "الشعارات" الأولى التي تطلقها الطبقات، حين انفجارها العفوي، فلكي يقلب الاقتصادي إلى سياسي، ويمحور الأمر في تغيير السلطة فقط. فالمطالب الأولى، الاقتصادية، هي ما تعيشه الطبقات المفقرة، وينعكس في تلمسها واقعها، وانفجارها من أجل تغيير هذا الواقع، أي تحقيق هذه المطالب وليس القفز عنها والاكتفاء بتغيير السلطة. فهذا المطلب الأخير يعني، بالضبط، تغيير كلية النمط الاقتصادي السياسي، من أجل تحقيق تلك المطالب، وليس من أجل تغيير أشخاص أو تغيير شكل السلطة فقط.
فهم الواقع يفرض تحديد وضع الطبقات، وظروفها، وإذا كان شعار "الشعب السوري مش جعان" قد أُطلق في درعا، فقد عبر، مثل شعار "حرية وبس" عن مصالح فئات وسطى، وليس عن كل الطبقات، ولقد أوضحت بالأرقام، في رد سابق، وضع الطبقات المفقرة (البطالة المرتفعة والفقر الشديد)، وهي الحال التي كانت تؤسس لاحتقان لدى هؤلاء. ولا شك أن فئات وسطى شبابية حرّضت على الثورة، وحاولت تنظيمها في البدء، كان هدفها الحرية تحديداً، لكن هذه فئة من شعب مفقر ومهمش، كما في تونس ومصر وكل البلدان المخلَّفة. وفيما عدا نشاط تلك الفئات التي نشدت الحرية، انتشرت الثورة بدءاً من الريف المهمش (تونس وسورية) والمدن المهمشة، والأحياء المفقرة المحيطة بمدن، مثل دمشق وحلب. وهؤلاء يريدون الحرية، لكنهم يريدون، أساساً، المقدرة على العيش. وحين الحديث عن الثورة، لا بد من الحديث عن كل هؤلاء، وليس عن "طبقة وسطى ذات وعي سياسي" فقط، بل هذه الطبقة إما أن تعبّر عن مصالحها هي فقط (وهذا ما لمسناه في سورية) أو تعبر عن مشروع مجتمعي، وهي لم تكن قد طرحت ذلك. وكما أشرت أزمة الثورات تكمن هنا بالضبط.