05 نوفمبر 2024
نقاش الهوية والمعادلة السياسية في المغرب
لم يحدث أن كانت الهوية، بوصفها قضية لغوية بالأساس، محل تقاطب المعادلات السياسية في المغرب، بما هي تركيبة حكومية برلمانية موجودة، كما هو الحال عليه اليوم، فالمغرب الذي يفتخر باستمرار بأنه البلد المتعدّد الألسن، بين أمازيغيةٍ، هي بذاتها متعدّدة الروافد في سوس والريف والأطلس والصحراء الحسانية، ولغة عربية وتراث دينيٍّ تنوّعي، لم يسقط في أية لحظة في الاستحالة اللغوية، لكنه، مع ذلك، يعيش مخاضاتٍ لغويةٍ من الحدّة بمكان يلتقي فيها الغيبي، بالعلمي، والتحديثي باللاهوتي، وتتنازع فيها المقاربات، بين البعد الاجتماعي والاقتصادي والتنموي.
والجديد الذي يعرفه المغرب، المفتوح على مثل هذه النقاشات منذ مجيء العهد الجديد مع العاهل محمد السادس، بنفسٍ تحرّري كبير، وبهوامش واسعة في التناظر، هو أن النقاش يتم داخل أروقة الحكم نفسها، مع وصول التيار الإسلامي إلى التدبير العام، عن طريق فريقه السياسي المتمثل في حزب العدالة والتنمية. (أنظر مقالة "الحراك اللغوي في المغرب" المنشورة في "العربي الجديد"، 19 مارس/ آذار الماضي). الفصل الجديد في الهوية كرهان سياسي هو ما حدث لرئيس الحكومة نفسه، إثر "لايف" فريد أرسله الأمين العام السابق، والوجه البارز في قيادة التيار الإسلامي، رئيس الحكومة السابق، عبد الإله بنكيران، إذ كان كافيا أن يعلن الرئيس السابق للحكومة عن موقفه، ويدعو الرئيس الحالي وخليفته في الهرم الحزبي إلى رفض تعريب المواد العلمية في المدرسة، الواردة ضمن مشروع قانون التربية
والتكوين، في فقرة لغات التدريس أو التناوب اللغوي، لكي يشتغل الحقل الحكومي والبرلماني والحزبي على الإيقاع الذي فرضه هو، وليس خليفته!
وكان من نتيجته أولاً، على مستوى البرلمان، اصطفاف أغلبية الفريق المكون من 127 عضواً، إن لم يكن كله، وراء دعوة بنكيران، ما أدّى إلى تأجيل التصويت والمصادقة على مشروع القانون، ودخول الصراع الحكومي إلى منطقة الاضطراب الهوياتي، وبدء الحديث عن سقوط الحكومة، والبحث عن صيغ جديدة. وكان أن وجد رئيس الحكومة، سعد الدين العثماني، نفسه وسط ثلاث دوائر، لا يملك فيها السلطة كلها: الأولى فريقه البرلماني، كما سلف أعلاه. والثانية أغلبيته الحكومية. وفي هذا الصدد، كانت الأحزاب التي تشكل الحكومة (التجمع الوطني للأحرار، بقيادة عزيز أخنوش، والحركة الشعبية بقيادة امحند العنصر والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بقيادة إدريس لشكر و"التقدم والاشتراكية" بقيادة نبيل بن عبدالله) قد أعلنت، بوضوح، أنها تحمّل مسؤولية التراجع عن التصويت على مشروع قانون التدريس والتربية لرئيس الحكومة. وتعالت الأصوات والمواقف، لتطالب الرئيس الحالي للحكومة بالتصويت كما تم الاتفاق عليه.
ولم تلتزم المعارضة الصمت، إذ ذهب أقدم حزب في البلاد، حزب الاستقلال بقيادة نزار بركة، إلى المطالبة بعرض الحكومة على تصويت الثقة. وبمعنى آخر، وعلى الرغم من أن موقف حزب الاستقلال قريبٌ للغاية من مواقف حزب العدالة والتنمية من هذه القضية، إن لم يكن تجاوزه في حدّة الهجوم على مناهضي التعريب، فهو مع ذلك طالب بأن تعرض الحكومة نفسها على نفسها! وتحتكم إلى تصويت الثقة الذي يسمح لها بمواصلة التدبير، أو يجعلها عرضة للتعديل. وهو موقفٌ لم يصدر عن أي حزب سياسي، منذ ملتمس الرقابة الذي تقدمت به الكتلة الديمقراطية (قطب المعارضة في عهد الملك الراحل الحسن الثاني) في 1996، ما أدّى إلى
مسلسل من الإصلاحات السياسية والدستورية.
أما الدائرة الثالثة فهي تتعلق بقيادة الحزب نفسها، إذ لم يعد خافيا أن أنصار الدفاع عن تعريب لغة العلوم، داخل قيادة "العدالة والتنمية" اصطفوا كليا مع الأمين العام السابق، عبد الإله بنكيران، ودفعوا بإبقاء لغة التدريس بالعربية، على الرغم من كل التوافقات السابقة، الشيء الذي ضيّق للغاية من هامش الأمين العام الحالي، ورئيس الحكومة، سعد الدين العثماني، فالحزب هو الأول في التركيبة البرلمانية، والحكومية، ويتولى الشأن المحلي في جماعات ترابية كثيرة (المدن والمدن المتوسطة أساساً)، وأمينه العام، سعد الدين العثماني، هو في الوقت نفسه رئيس الحكومة، وأحد العاملين في الإنتاج الفكري من داخل المنظومة الإسلامية. وجديد كتبه التي تناولت معضلات حديثة للتيار الحزبي في الإسلام، "الدين والسياسة تمييز لا فصل"، استعاد فيه إشكالية الحكم من صلب إشكالات الراهن.
على كلٍّ، يواجه سعد الدين العثماني معادلاتٍ غير مسبوقة. أولاً: البقاء ضمن أغلبية متجانسة، تستطيع أن تنجح في ورش لغوية علمية وسياسية مجتمعية كبيرة، من قبيل تأهيل المدرسة مع تأهيل اللغات. ثانياً: الحفاظ على تماسك حزبي، قادر على التحرّك، وليس جدارا متراصّا حقا، ولكنه قد يعرقل العمل الحكومي. ثالثاً: كيفية إثبات البصمة الشخصية في القيادة، مع وجود ظلال طويلة لشخصية جدالية، وذات حضور قاهر، كشخصية عبد الإله بنكيران، فالرجل الأخير أثبت، في رمشة عين سياسية، أنه يستطيع أن يخلخل توازنات قيادة خليفته كلها، داخل الحزب وداخل البرلمان وداخل الحكومة. وبالتالي، فإن الذين ودّعوه ربما تسرّعوا قليلاً في ذلك. ويبقى أن الطبقة السياسية تعرف أن أي انهيار للحكومة اليوم سيعيد النقاش السياسي إلى معادلاته الهوياتية، وإلى مفاهيم لا تتطلب سوى البرنامج اللغوي، والقدرة على تأثير الحماسي، وستعفي الحزب الذي يقود هذه الحكومة من أي حصيلةٍ اجتماعيةٍ واقتصادية لتدبيره، سواء في هذه الولاية أو منذ 2011. وقد سبق أن أفلح هو نفسه في جر خصومه إلى نقاشٍ مماثل، ربح فيه المعركة بقوة في انتخابات 2016.
علاوة على ذلك، لا تبدو أغلب الأحزاب في وضع اصطفاف تنافسي، لخوض المعركة
الانتخابية، إذا ما هي فرضت نفسها قبل الأوان، من دون الحديث عن الشرط الإقليمي الذي يفرض على الجميع التأني، وعدم الخوض في احتمالاتٍ غير محسوبة بدقة، وقد تنضج الانتخابات، وحِدَّة الصراعات فيها، شروطا لتضاد حَدِّي وقوي، قد يلجأ إلى الشارع لحسمه، كما حدث مع خطة إدماج المرأة التي عرفت انقساما حادّا داخل البلاد، شق المجتمع إلى صفين، ولولا التحكيم الملكي، لما تم تجاوزه. رابعا: يستدرج نقاش دستوري تفصيلي، الطبقة السياسية إلى مزيد من التدقيقات في ما يخص تشكيلات الائتلاف الحكومي، سيما في وضع مبلقن، تشتت بفعل عوامل كثيرة، كما قد يدقق في الكلفة السياسية لكل برنامج، من قبيل إعطاء المعارضة أدوارا في حل الأزمات (النموذج الإسباني بعد سقوط حكومة اليمين، وصعود حكومة الاشتراكيين، على الرغم من أن الحزب الشعبي اليميني حاز الرتبة الأولى في الاقتراع الأخير، مثال يناقش بقوة وبحدة في المغرب الآن).
وكان من نتيجته أولاً، على مستوى البرلمان، اصطفاف أغلبية الفريق المكون من 127 عضواً، إن لم يكن كله، وراء دعوة بنكيران، ما أدّى إلى تأجيل التصويت والمصادقة على مشروع القانون، ودخول الصراع الحكومي إلى منطقة الاضطراب الهوياتي، وبدء الحديث عن سقوط الحكومة، والبحث عن صيغ جديدة. وكان أن وجد رئيس الحكومة، سعد الدين العثماني، نفسه وسط ثلاث دوائر، لا يملك فيها السلطة كلها: الأولى فريقه البرلماني، كما سلف أعلاه. والثانية أغلبيته الحكومية. وفي هذا الصدد، كانت الأحزاب التي تشكل الحكومة (التجمع الوطني للأحرار، بقيادة عزيز أخنوش، والحركة الشعبية بقيادة امحند العنصر والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بقيادة إدريس لشكر و"التقدم والاشتراكية" بقيادة نبيل بن عبدالله) قد أعلنت، بوضوح، أنها تحمّل مسؤولية التراجع عن التصويت على مشروع قانون التدريس والتربية لرئيس الحكومة. وتعالت الأصوات والمواقف، لتطالب الرئيس الحالي للحكومة بالتصويت كما تم الاتفاق عليه.
ولم تلتزم المعارضة الصمت، إذ ذهب أقدم حزب في البلاد، حزب الاستقلال بقيادة نزار بركة، إلى المطالبة بعرض الحكومة على تصويت الثقة. وبمعنى آخر، وعلى الرغم من أن موقف حزب الاستقلال قريبٌ للغاية من مواقف حزب العدالة والتنمية من هذه القضية، إن لم يكن تجاوزه في حدّة الهجوم على مناهضي التعريب، فهو مع ذلك طالب بأن تعرض الحكومة نفسها على نفسها! وتحتكم إلى تصويت الثقة الذي يسمح لها بمواصلة التدبير، أو يجعلها عرضة للتعديل. وهو موقفٌ لم يصدر عن أي حزب سياسي، منذ ملتمس الرقابة الذي تقدمت به الكتلة الديمقراطية (قطب المعارضة في عهد الملك الراحل الحسن الثاني) في 1996، ما أدّى إلى
أما الدائرة الثالثة فهي تتعلق بقيادة الحزب نفسها، إذ لم يعد خافيا أن أنصار الدفاع عن تعريب لغة العلوم، داخل قيادة "العدالة والتنمية" اصطفوا كليا مع الأمين العام السابق، عبد الإله بنكيران، ودفعوا بإبقاء لغة التدريس بالعربية، على الرغم من كل التوافقات السابقة، الشيء الذي ضيّق للغاية من هامش الأمين العام الحالي، ورئيس الحكومة، سعد الدين العثماني، فالحزب هو الأول في التركيبة البرلمانية، والحكومية، ويتولى الشأن المحلي في جماعات ترابية كثيرة (المدن والمدن المتوسطة أساساً)، وأمينه العام، سعد الدين العثماني، هو في الوقت نفسه رئيس الحكومة، وأحد العاملين في الإنتاج الفكري من داخل المنظومة الإسلامية. وجديد كتبه التي تناولت معضلات حديثة للتيار الحزبي في الإسلام، "الدين والسياسة تمييز لا فصل"، استعاد فيه إشكالية الحكم من صلب إشكالات الراهن.
على كلٍّ، يواجه سعد الدين العثماني معادلاتٍ غير مسبوقة. أولاً: البقاء ضمن أغلبية متجانسة، تستطيع أن تنجح في ورش لغوية علمية وسياسية مجتمعية كبيرة، من قبيل تأهيل المدرسة مع تأهيل اللغات. ثانياً: الحفاظ على تماسك حزبي، قادر على التحرّك، وليس جدارا متراصّا حقا، ولكنه قد يعرقل العمل الحكومي. ثالثاً: كيفية إثبات البصمة الشخصية في القيادة، مع وجود ظلال طويلة لشخصية جدالية، وذات حضور قاهر، كشخصية عبد الإله بنكيران، فالرجل الأخير أثبت، في رمشة عين سياسية، أنه يستطيع أن يخلخل توازنات قيادة خليفته كلها، داخل الحزب وداخل البرلمان وداخل الحكومة. وبالتالي، فإن الذين ودّعوه ربما تسرّعوا قليلاً في ذلك. ويبقى أن الطبقة السياسية تعرف أن أي انهيار للحكومة اليوم سيعيد النقاش السياسي إلى معادلاته الهوياتية، وإلى مفاهيم لا تتطلب سوى البرنامج اللغوي، والقدرة على تأثير الحماسي، وستعفي الحزب الذي يقود هذه الحكومة من أي حصيلةٍ اجتماعيةٍ واقتصادية لتدبيره، سواء في هذه الولاية أو منذ 2011. وقد سبق أن أفلح هو نفسه في جر خصومه إلى نقاشٍ مماثل، ربح فيه المعركة بقوة في انتخابات 2016.
علاوة على ذلك، لا تبدو أغلب الأحزاب في وضع اصطفاف تنافسي، لخوض المعركة