14 نوفمبر 2024
نعم.. المغرب يتغير
لم يكن أحد يتوقع أن تلقى دعوة إلى مقاطعة ثلاثة منتجات استهلاكية لتوزيع المحروقات والحليب والمياه المعدنية كل هذا النجاح في المغرب. فلم تعد مجرد حملةٍ للاحتجاج على غلاء الأسعار وارتفاع تكلفة المعيشة، بقدر ما أصبحت عنوانا لتحول عميق وهادئ، يخترق المجتمع المغربي، ويستدعي، بالتالي، أسئلةً كبرى تتجاوز البعد الاجتماعي الاقتصادي لهاته المقاطعة إلى مساءلة أبعادها السياسية العميقة.
نحن أمام طور جديد في الاحتجاج المغربي، يتميز بقدرةٍ لافتةٍ على تعبئة موارده من داخل شبكات التواصل الاجتماعي، وتحويلها إلى فعل اجتماعي وسياسي على أرض الواقع، وصناعة رأي عام على قدرٍ من الحيوية والفاعلية. يتعلق الأمر بما يمكن تسميته فضاء عموميا مضادا لذلك الذي تشرف عليه السلطة والنخب، وهو قادر على إنتاج السياسة بعيدا عن مواقعها التقليدية.
وإذا كان بعضهم يرى في استهداف ثلاث شركات دون غيرها ما يثير الشكوك بشأن وجود جهةٍ سياسيةٍ ما تقف خلف حملة المقاطعة، إلا أن الوقوف على موقع هذه الشركات داخل معادلات السلطة والمال والاقتصاد في المغرب يكشف، ربما، الدلالات الكامنة خلف هاته الحملة، فهناك رفض متنام لزواج المتعة بين المال والسياسة، باعتباره عنوانا للفساد السياسي والإداري، وضربا لمصداقية المؤسسات التي يُفترض أنها تعزّز الخيار الديمقراطي الذي نص عليه الدستور.
كشفت الحملة عن اختلالاتٍ يعرفها الرأسمال المغربي، فقد عجزت الشركات المستهدفة عن
تدبير الأزمة وتطويق امتداداتها المختلفة، وافتقدت الحسَّ المقاولاتي والاحترافيةَ المطلوبة في مثل هذه الحالات. أخفقت في اجتراح آليات مناسبة للتواصل مع المقاطعين، وبدا الارتباك على أدائها منذ الأيام الأولى للحملة.
يعيد هذا إلى الواجهة جملة أسئلة جوهرية، تخص طبيعةَ هذا الرأسمال، وأصوله الاجتماعية وعلاقته التاريخية والعضوية بالدولة، ودورَ اقتصاد الريع في تمدّده الاجتماعي والسياسي، ومسؤوليةَ الدولة في التدخل لمراقبة الأسعار ومحاربة الاحتكار وحماية الأمن الاقتصادي والاجتماعي للمواطن، لاسيما في القطاعات ذات الأهمية البالغة بالنسبة إليه. كشفت الحملة الحاجة الملحة إلى اقتصادٍ حديث ومتطور، وقادرٍ أن يتحول إلى أحد مداخل تحديث المجتمع.
وفي الوسع القول، هنا، إن حملة المقاطعة تضع الطبقة الوسطى مجدّدا في قلب النقاش العمومي. ففي الوقت الذي تبدو فيه متضرّرةً من السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتبعة، إلا أنها لا تتوانى عن التعبير عن حيويةٍ سياسيةٍ لافتةٍ باتت مقلقة بالنسبة للسلطة والنخب، خصوصا في ضوء ما توفره وسائل التواصل الاجتماعي من إمكانات غير مسبوقة على مستوى التعبئة والتواصل.
كشفت هذه الحملة، أيضا، الفجوةَ العميقة التي تفصل النخب المغربية، بمختلف تنويعاتها، عن المجتمع، وما يعرفه من تحولات تستحق الوقوف عندها. أخفقت هذه النخب في التفاعل مع حملة المقاطعة وفهم أسبابها وأبعادها، وكرّست، بالملموس، ما يقال عن إفلاس مؤسسات الوساطة من أحزاب ونقابات ومجتمع مدني وإعلام، وعجزها الكبير عن التواصل مع ما يستجدّ على الساحة الاجتماعية من متغيرات. بل أكثر من ذلك، انطوت بعض ردود الأفعال التي أبداها مسؤولون في الحكومة، وداخل الشركات المستهدفة، على قدرٍ غير قليل من التعالي، إن لم نقل الازدراء حيال حملة المقاطعة. ولا مبالغة في القول إن نبرة التعالي التي شابت بعض التصريحات كان لها وقع كبير على اتساع قاعدة المقاطعين، وانخراط شرائح أخرى في هذه الحملة.
وإذا كان من السابق لأوانه الحديث عن نجاح حملة المقاطعة في تعديل نسبي لميزان القوى، في مواجهة الشركات الكبرى، إلا أنها أحدثت ارتجاجا داخل الطبقة السياسية، ولعل عرض
البرلمان فحوى التقرير الذي تم إعداده عن أسعار بيع المحروقات، يجسد أحد العناوين البارزة لهذا الارتجاج.
ما يحدث تحولٌ دال لا يجب الاستهانة به، أو التقليل من تبعاته على المدى البعيد. هناك تغيير هادئ يعرفه المجتمع المغربي، وهو تغيير أصبح بحاجة، أكثر من أي وقت مضى، لمواكبة سياسية، وإلا فإن الفجوة ستتسع أكثر بين الدولة والنخب من جهة، والمجتمع من جهة أخرى.
من ناحية أخرى، تحيل هذه الحملة، وإنْ بشكل غير مباشر، على محدودية العرض السياسي الذي قدمته السلطة قبل سبعة أعوام على هامش الحراك الشعبي العربي، وهو العرض الذي لم يُفرز امتداداته المفترضة سياسيا واجتماعيا، بسبب العوائق البنيوية الثاوية في الحقل السياسي المغربي بكل حمولته التقليدية.
ولعل تزامن هذه الحملة مع الاحتجاجات التي تندلع بين الفينة والأخرى في بعض المناطق (الريف، جرادة...) يجعلها في قلب الإشكالات الكبرى للسياسة المغربية. لم تستطع الطبقة السياسية أن تُحول هذا العرض إلى برامج وسياسات عمومية متوازنة توازي بين الإكراهات الاقتصادية التي تفرضها المتغيرات الدولية والتطلعات الاجتماعية المشروعة للمغاربة.
مؤكد أن المغرب يتغير. وفي حملة المقاطعة هاته أحد مؤشرات هذا التغيير الهادئ الذي يستوجب وقفة تأمل من السلطة والنخب السياسية والاقتصادية المصطفة حولها. وبقدر ما تستدعي هذه الحملة أسئلة الواقع الاجتماعي، بكل إكراهاته، بقدر ما تستدعي، أيضا، الأعطاب المزمنة للسياسة المغربية.
نحن أمام طور جديد في الاحتجاج المغربي، يتميز بقدرةٍ لافتةٍ على تعبئة موارده من داخل شبكات التواصل الاجتماعي، وتحويلها إلى فعل اجتماعي وسياسي على أرض الواقع، وصناعة رأي عام على قدرٍ من الحيوية والفاعلية. يتعلق الأمر بما يمكن تسميته فضاء عموميا مضادا لذلك الذي تشرف عليه السلطة والنخب، وهو قادر على إنتاج السياسة بعيدا عن مواقعها التقليدية.
وإذا كان بعضهم يرى في استهداف ثلاث شركات دون غيرها ما يثير الشكوك بشأن وجود جهةٍ سياسيةٍ ما تقف خلف حملة المقاطعة، إلا أن الوقوف على موقع هذه الشركات داخل معادلات السلطة والمال والاقتصاد في المغرب يكشف، ربما، الدلالات الكامنة خلف هاته الحملة، فهناك رفض متنام لزواج المتعة بين المال والسياسة، باعتباره عنوانا للفساد السياسي والإداري، وضربا لمصداقية المؤسسات التي يُفترض أنها تعزّز الخيار الديمقراطي الذي نص عليه الدستور.
كشفت الحملة عن اختلالاتٍ يعرفها الرأسمال المغربي، فقد عجزت الشركات المستهدفة عن
يعيد هذا إلى الواجهة جملة أسئلة جوهرية، تخص طبيعةَ هذا الرأسمال، وأصوله الاجتماعية وعلاقته التاريخية والعضوية بالدولة، ودورَ اقتصاد الريع في تمدّده الاجتماعي والسياسي، ومسؤوليةَ الدولة في التدخل لمراقبة الأسعار ومحاربة الاحتكار وحماية الأمن الاقتصادي والاجتماعي للمواطن، لاسيما في القطاعات ذات الأهمية البالغة بالنسبة إليه. كشفت الحملة الحاجة الملحة إلى اقتصادٍ حديث ومتطور، وقادرٍ أن يتحول إلى أحد مداخل تحديث المجتمع.
وفي الوسع القول، هنا، إن حملة المقاطعة تضع الطبقة الوسطى مجدّدا في قلب النقاش العمومي. ففي الوقت الذي تبدو فيه متضرّرةً من السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتبعة، إلا أنها لا تتوانى عن التعبير عن حيويةٍ سياسيةٍ لافتةٍ باتت مقلقة بالنسبة للسلطة والنخب، خصوصا في ضوء ما توفره وسائل التواصل الاجتماعي من إمكانات غير مسبوقة على مستوى التعبئة والتواصل.
كشفت هذه الحملة، أيضا، الفجوةَ العميقة التي تفصل النخب المغربية، بمختلف تنويعاتها، عن المجتمع، وما يعرفه من تحولات تستحق الوقوف عندها. أخفقت هذه النخب في التفاعل مع حملة المقاطعة وفهم أسبابها وأبعادها، وكرّست، بالملموس، ما يقال عن إفلاس مؤسسات الوساطة من أحزاب ونقابات ومجتمع مدني وإعلام، وعجزها الكبير عن التواصل مع ما يستجدّ على الساحة الاجتماعية من متغيرات. بل أكثر من ذلك، انطوت بعض ردود الأفعال التي أبداها مسؤولون في الحكومة، وداخل الشركات المستهدفة، على قدرٍ غير قليل من التعالي، إن لم نقل الازدراء حيال حملة المقاطعة. ولا مبالغة في القول إن نبرة التعالي التي شابت بعض التصريحات كان لها وقع كبير على اتساع قاعدة المقاطعين، وانخراط شرائح أخرى في هذه الحملة.
وإذا كان من السابق لأوانه الحديث عن نجاح حملة المقاطعة في تعديل نسبي لميزان القوى، في مواجهة الشركات الكبرى، إلا أنها أحدثت ارتجاجا داخل الطبقة السياسية، ولعل عرض
ما يحدث تحولٌ دال لا يجب الاستهانة به، أو التقليل من تبعاته على المدى البعيد. هناك تغيير هادئ يعرفه المجتمع المغربي، وهو تغيير أصبح بحاجة، أكثر من أي وقت مضى، لمواكبة سياسية، وإلا فإن الفجوة ستتسع أكثر بين الدولة والنخب من جهة، والمجتمع من جهة أخرى.
من ناحية أخرى، تحيل هذه الحملة، وإنْ بشكل غير مباشر، على محدودية العرض السياسي الذي قدمته السلطة قبل سبعة أعوام على هامش الحراك الشعبي العربي، وهو العرض الذي لم يُفرز امتداداته المفترضة سياسيا واجتماعيا، بسبب العوائق البنيوية الثاوية في الحقل السياسي المغربي بكل حمولته التقليدية.
ولعل تزامن هذه الحملة مع الاحتجاجات التي تندلع بين الفينة والأخرى في بعض المناطق (الريف، جرادة...) يجعلها في قلب الإشكالات الكبرى للسياسة المغربية. لم تستطع الطبقة السياسية أن تُحول هذا العرض إلى برامج وسياسات عمومية متوازنة توازي بين الإكراهات الاقتصادية التي تفرضها المتغيرات الدولية والتطلعات الاجتماعية المشروعة للمغاربة.
مؤكد أن المغرب يتغير. وفي حملة المقاطعة هاته أحد مؤشرات هذا التغيير الهادئ الذي يستوجب وقفة تأمل من السلطة والنخب السياسية والاقتصادية المصطفة حولها. وبقدر ما تستدعي هذه الحملة أسئلة الواقع الاجتماعي، بكل إكراهاته، بقدر ما تستدعي، أيضا، الأعطاب المزمنة للسياسة المغربية.