نظام تشبيح دولي

11 ابريل 2014

بوتين يطالع مرسوم ضم القرم إلى روسيا (أرشيفية)

+ الخط -

قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إنه لا يسعى إلى اقامة قطب دولي جديد، لكنه يتطلع إِلى ممارسة قيادة تستطيع الإفادة من متغيرات الوضع الدولي، باستغلال ما تتيحه لها من فرص تختلف من حالة إلى أخرى، تخدم مصالح بلدانها، على غرار ما حدث في أزمة أوكرانيا. 
قيل هذا الكلام في سياسةٍ، تنبأ كثيرون بتخلقها، منذ بعض الوقت، داخل إطار الواقع الدولي الراهن، والذي يبدو وكأنه يتسم بقدر كبير من الاضطراب على مستوى أحداثه، وبتوازناتٍ متفرقةٍ في ما يتصل بتوزع قواه وعلاقاته، تتيح له الإفادة من فرصه وأزماته، وتكريس نفوذه فيه، ومنع الآخرين من التأثير الفاعل على وقائعه ومجرياته. 
يرى كثيرون أن ما يحدث في سوريا كان لحظةً فارقةً ومفصليةً في تشكل ما سمّاه بوتين "القيادة الجديدة"، ليس فقط لأنه قدم مكاناً لاختبار السياسة الجديدة، وبيئةً وفرت لها قبول دول قوية، أهمها عالمياً روسيا والصين، وإقليمياً إيران، بما أحدثته هذه من اختراقاتٍ طائفية: تنظيميةٍ وسياسيةٍ داخل الجسد العربي، أهمها ميليشيا حزب الله في لبنان، وميليشيات مسلحة عديدة في العراق، إلى جانب نظام الأسد في دمشق: الاختراق الاستراتيجي الوحيد على مستوى الدولة الذي حققته طهران في الدول العربية. وينفرد، لهذا السبب، بأهمية خاصة بالنسبة لها، تفسر استماتتها في القتال إلى جانبه، ودفاعها عنه بكل ما تملك من سلاحٍ ومالٍ ومقاتلين، وما أولته إياه من مكانةٍ، باعتباره خط الدفاع الأول عن طهران، إِذا سقط سقطت، لذلك من غير الجائز السماح بسقوطه، مهما بلغت تكلفة ذلك من دماء السوريين الأبرياء وممتلكاتهم. 
تقوم "القيادة" الدولية التي يبشر بوتين بها على مبدأين متكاملين، ظهر أثرهما الواضح في المعضلة السورية، هما: الخروج على النظام الدولي، وتعطيل ما فيه من شرعية، تعطيلاً تاماً، والعمل خارج أي قانون دولي، أو شرعية محلية، أو قانون وطني من جهة، وممارسة العنف سياسةً وحيدةً موجهةً ضد كل من يشق عصا الطاعة، أَو تتعارض مصالحه مع مصالح الدولة التي يتبع لها، أَو تمس الحاجة إلى اختراقه، والسيطرة عليه. 


بعد تجربة هذا النمط بنجاح في سوريا، جرى تكراره في القرم، حيث انقضَّت روسيا على دولة ذات سيادة، هي أوكرانيا، واستولت بقوة السلاح على جزءٍ استراتيجي من أراضيها، هو شبه جزيرة القرم، بحجة أنه كان جزءاً من الاتحاد السوفياتي تارة، وحماية الناطقين باللغة الروسية تارة أخرى. متجاهلة تجاهلاً مطلقاً مجلس الأمن والأمم المتحدة.  ومنتهكةً مبدأ عدم التدخل في الدول الأجنبية، والسعي إلى تغيير أوضاعها، والذي تتذرع به لتعطيل أي حل دولي أو محلي في سوريا، وضاربةً عرض الحائط بحق التدخل الإنساني، غير المسلح والسلمي، لحماية شعب تجري إبادته، ومواصلة تزويد النظام بأنواع متقدمة جداً من الأسلحة، كان آخرها أسلحة حرارية فتاكة، إلى درجةٍ يصعب تصورها. في هذه الأثناء، لم توقف لحظةً واحدةً تعاونها مع إيران في كل ما يتصل بإدارة الحرب ميدانياً، فكأن تدخل حرس إيران الثوري وجيشها وتدخلها هي، والذي قام على تقويض الشرعية الدولية، ووضع الحال السورية خارج أي قانون دولي أو وطني، ليسا تدخلاً في الشأن السوري، بينما تمثل قرارات مجلس الأمن بشأن وقف العنف ضد الآمنين من الناس عدواناً على سيادة سوريا، تمس الحاجة إلى إحباطه بأي ثمن، بما في ذلك عمليات القتل المنظمة، وإطالة أمد الحرب، وتغطية من انخرط من الغزاة الخارجيين في الحرب ضد سوريا والسوريين.  
 نجحت سياسات التشبيح الدولي في سوريا، وحققت نتائج سريعة في أوكرانيا. وكشفت تهافت سياسات الغرب القائمة على مصالح تتسم بالأنانية، وتتجاهل بصورةٍ تكاد تكون تامة القيم والمعايير الضرورية، لتفعيل نظام دوليٍ، يلبي مصالح الشعوب ويحميها. وأثار هذا التناقض بين سياسات دول التشبيح الدولي الهجومية وتصرفات أوروبا وأميركا المتحفظة رعب دول وسط أوروبا وشرقها، والتي وجدت نفسها أمام أشباح ماضٍ مرعبٍ عاشته تحت الاحتلال الروسي، واحتمال تدخل عسكريٍّ مفتوح ضدها، يشجع وقوعه افتقارها، كأوكرانيا إلى حماية، وتركها وحيدةً في مواجهة قوةٍ لا قبل لها بها، وسياسة هجومية، مافياوية الطابع، يمكن أن تتذرع بأي شيء تريده، بما في ذلك حماية اللغة الروسية، لكي تفرض إرادتها عليها، أو تقتطع أجزاء منها كدول سيدة ومستقلة، كان ذنبها الوحيد في أوكرانيا أنها تجرأت، وقامت بثورة أطاحت رئيساً عرف بالعمالة لموسكو. في المقابل، حافظت على رئيسٍ يقتل شعبه في سوريا، لأنه تجرأ وثار عليه، بل وطالبه بما لم يرق لها: التنحي عن السلطة. 

يتخلق، منذ أعوام قليلة، نظام تشبيح دوليٍّ، عبرت مسارات المعضلة السورية والأوكرانية عن وجوده وفاعليته. إنه، كما سبق القول، نظام عنفٍ وخروجٍ على الشرعية والقانون، يمسك بالمبادرة في مناطق تشهد صراعاتٍ ستلعب دوراً مهماً في تحديد نمط العلاقات الدولية سنوات عديدة مقبلة، وتؤكد أنه سيكون لانتصاره، كنظام، عواقب وخيمة في زمنٍ تشي ملامحه بأنه سيكون زمن دماء وعنف، سيقوض النظام الدولي، وسيخضع خضوعاً مفتوحاً لانعدام الأمان والقانون! 
 

E4AA2ECF-ADA6-4461-AF81-5FD68ED274E9
ميشيل كيلو

كاتب سوري، مواليد 1940، ترأس مركز حريات للدفاع عن حرية الرأي والتعبير في سورية، تعرض للاعتقال مرات، ترجم كتباً في الفكر السياسي، عضو بارز في الائتلاف الوطني السوري المعارض.