نضالات شخصية مريحة

16 اغسطس 2015
+ الخط -
منذ سنوات، تغيب الجماهير فلسطينياً، تغيب عن الشارع وعن المواجهة مع الاحتلال، وحتى عن المناكفة السياسية بين الفصائل، تغيب بشكل متزايد كحضور مادي، وحتى كحضور رمزي خطابي، تغيب عن الإعلام وفي المخيال الثقافي والغنائي، إلا كاستدعاء لبعيد أو غائب، وفي سياق الحنين والتذكر. 
"يا جماهير شعبنا ..." بدأت تغيب، أيضاً، عن خطابات الفصائل وبياناتها، بعد أن كانت تصدح في كل مكان. اليوم بيانات الفصائل مسيسة وبلغة دبلوماسية، وموجهة بعناية لمن لا يقرأها، للاحتلال أو المجتمع الدولي، والطريف أنها توزع على الفلسطينيين، وتتلى عليهم حتى وهي لا تخاطبهم. مبرر آخر لشعور الجماهير بأنها غائبة فعلا، فالخطاب الذي يوضع بين يديها غير موجه لها أصلا.
لم تعد هنالك حتى قيادات جماهيرية، من تلك النوعية التي يتطلع إليها الناس، ويرددون خلفها، ويرتفع أدرينالينهم، حين تعتلي المنصة، أو تمسك الميكروفون. اليوم هنالك قيادات إن رآها الناس فقد يرونها من خلال مجموعة حراسات وزجاج أسود.
وعبر عدة سنوات من استخدام مجموعات من الأعوان والمتعاونين، ومحاولات إظهارهم على أنهم "جماهير" في مناكفات داخلية لا علاقة لها بالشأن الوطني، بل وتلغيه وتسقطه من حسبانها، بدأت الريبة تحيط بأي مجموعة صاخبة في الشارع، وقناعة أولية بأنهم ليسوا "جماهير شعبنا".
وحدها جنازات الشهداء قد تجمع الجماهير، هذا بعد أن تخوض السجال الكريه عن تنظيم الشهيد، وأي الرايات سيحمل المشيعون، وهل ستوافق أجهزة الأمن عليها، وبفعل منغصات كهذه، بدأت حتى جنازات الشهداء شأنا عائلياً، أو محلياً، تتدخل فيه الفصائل أو بقاياها.
وحين تغيب الجماهير، وتختفي من المشهد، يختل عالم من عاشوا فيها، يفقدون قدرتهم على التعاطي مع ما يجري حولهم، وقد أمسوا دون محيطهم الحيوي، من يمنحهم معنى الحياة والنضال. هنا تصبح النتائج متباينة، إما التواري مثل الجماهير والانشغال بأي شيء عن هذه الخسارة الفادحة، أو مواصلة نضال شخصي فردي.
جزء وافر من التغني بالنضالات الفردية ناجم عن محاولة تبرئة الذمة، وإراحة الضمير حيال فكرة النضال ككل، وليس ناجما عن القناعة بأهمية هذه النضالات، أو جدواها أو إمكانية أن تكون خيار المحتفي أو المتغني نفسه. فالنضال الفردي عظيم، ويستحق كل إشادة، لكنه لا يستحق أن أتبناه أو أنتهجه، هذا لسان حال كثيرين، وفي مقدمتها الفصائل الفلسطينية.
بل إن المأزق الفعلي هو اعتباره استمرارا "للنضال" بمعناه المألوف، فنحن لا نزال نناضل. وبذلك، يضاف تكتيك آخر لإبعاد الجماهير وتغييبها، فهنالك من يواصل النضال. نتغنى بالأسير المضرب عن الطعام وحده، ونحيي صمود فتيان المخيم في المواجهات، ونعلي شأن العائلة الصامدة فوق بيتها المدمر. ويسعدنا لو واصلوا ما فعلوا أول الأمر. بعد فترة، تحرجنا مواصلتهم، وتضعنا في مواجهة إمكانية تعميم هذه النضالات الشخصية، وهذا ما يبدو أن لا أحد يريده، أو يسعى إليه، فلتظل النضالات شخصية، حتى يخيّل لمن يتابع الحالة الراهنة أن الاحتلال شأن شخصي، يتعلق بذاك الذي يناضل، يصبح الاحتلال مثل مرض السرطان، لا يعني إلا صاحبه، ولا يمكننا إلا إرسال أمنيات الشفاء له.
في جنازات الشهداء، يهتف الفلسطينيون هتافا شهيرا "يا شهيد ارتاح ارتاح واحنا نواصل الكفاح". قبل أيام، وفي وقفة تضامنية في رام الله، بعد استشهاد والد الطفل علي دوابشة، رفع أحدهم لافتة تقول: "يا شهيد ارتاح ارتاح"، فقط، كانت اللوحة صريحة جدا وصادقة جدا، وبلا أي بيع أوهام للشهيد ولا وعود زائفة. تعبر هذه اللافتة عمن غيبوا الجماهير وغابوا عنها، وتعبر بصدق عن كثيرين منا، نحن الفلسطينيين، نريد من الشهيد أن يرتاح، ويريحنا معه من أي أعباء قادمة.
2BB55568-EFEE-416B-934D-5C762181FE7F
عبّاد يحيى

كاتب وباحث وصحفي من فلسطين