توفيت العام الماضي سجينة الرّأي مفيدة السلامي بعد سنتين من الثورة. توفيت قبل رد كرامتها التي انتهكت على مدى 21 سنة.
توفيت المناضلة مفيدة السلامي في العقد الرّابع من عمرها حاملة معها ظلماً كتبت أول أسطره في الزمن البائد.. وختمت مسيرتها المأساوية بتجاهل السلطات المعنية والرأي العام لها بعد الثورة.
تعود معاناة السلامي إلى العام 1992 حين اعتقلت وهي طالبة في الجامعة في منطقة تاجروين بولاية الكاف (تقع بالشمال الغربي من تونس)، بتهمة الانتماء إلى جمعية غير مرخص لها.
قضت في السّجن سنة وستة أشهر، عانت خلالها من تدهور حالتها الصحية بسبب ظروف السجن الصعبة، فأصيبت بعدة أمراض وتدهورت حالتها الصحية تماماً، ولم تخرج منه إلا وقد تحطمت مناعتها كلياً.
مفيدة السلامي رحلت مظلومة بعد نضال طويل من أجل النساء |
وحرصاً من النظام المخلوع على طمس معالم الجريمة الإنسانية التي ارتكبت في حقها كما فعل مع عديد من سجينات الرأي، أتلف ملفها الطبي في المستشفى، وحرمت من جواز سفرها والعلاج في الخارج.
ورغم خروجها من السّجن، تواصلت المداهمات الأمنية لمنزلها وسجن زوجها وتعرضت عائلتها إلى مضايقات على امتداد أكثر من 20 سنة.
بيّن ملف السلامي الطبي أنها أصيبت بالتهابات في المخ تلاها نزيف في الدماغ أثناء الولادة تسبب في حالة شلل تام في الأطراف العلوية والسفلية وعجز عن النطق.
مفيدة السلامي واحدة من بين مئات النساء التونسيات اللواتي عانين الظلم والويلات في زمن النظام المخلوع. لكن لم تكن معاناتهن لتصل إلى الرّأي العام لولا الثّورة التّونسية التي كشفت النّقاب عن المظالم التي تعرضت لها النساء كغيرهن من المواطنين. وكشفت الصورة الحقيقية لنظام بن علي الذي لطالما تشدق باحترامه لحقوق المرأة لدى الرأي العام الأجنبي.
اليوم العالمي للمرأة
يمثّل تاريخ الثامن من مارس/ آذار من كل عام محطة سنوية للوقوف على حصيلة المكتسبات على امتداد سنة كاملة من الحضور الفاعل والنضال المتواصل للمرأة. وكغيرها من النساء، تحتفل المرأة التونسية بهذا اليوم، لكن على طريقتها في التعبير عن قضاياها ومشاغلها الوطنية.
تميزت تونس بتقدمها في مجال احترام حقوق المرأة، حيث تملك قدرات هائلة إن على المستوى السياسي أو الاقتصادي، خصوصاً أن مجلة "الأحوال الشخصية" الصادرة في سنة 1956 تضمنت قوانين تعتبر حالة فريدة في وقتها كمنع تعدد الزوجات وجعل الطلاق من مهام المحكمة والقاضي، إلى جانب قوانين أخرى تعتبر ملزمة في ضمان مساواتها التامة مع الرّجل.
كذلك أثبتت دراسة أجرتها مؤسسة "تومسون رويترز" أخيراً أن تونس احتلت المرتبة الأولى بين دول المغرب العربي في احترام حقوق المرأة، والمرتبة السادسة بين دول العالم العربي.
إلا أنّ المتأمل في المشهد السياسي عموماً في تونس قبل الثورة، يرى أن التشريعات بقيت حبراً على ورق، خصوصاً وقد حرمت المرأة التونسية من ممارسة حقوق المواطنة عبر التضييق عليها في نشاطها النقابي والسياسي والحقوقي، وتعرّضها للتعذيب والاغتصاب داخل السجون.. إضافة إلى الانتهاكات التي تتعرض لها من قمع وتعنيف في كثير من الأحيان والنظرة إليها على أنها مجرد كائن خاضع للرجل في مجتمع ذكوري.
المرأة والعنف
ولئن نجحت الآلة الدعائية للنظام السابق في الترويج لفكرة أن المرأة تونسية قد حققت العديد من المكاسب القانونية والاجتماعية، تضمن لها المساواة مع الرجل، فإن المجتمع التونسي بقي في الحقيقة وفي جزء كبير منه مجتمعاً تقليدياً يجعل من المرأة كائناً خاضعاً باستمرار للسيطرة الذكورية وسلطة المجتمع والتقاليد والأعراف، التي كرست دونية المرأة وتساهم في إذلالها.
وقد ساد الاعتقاد بأنّ المرأة في تونس تتمتع بحقوق وامتيازات تتماشى نسبياً مع تلك التي يجب أن تتوافر لتحقيق أحد مؤشرات التنمية. إلا أن صحة هذا الاعتقاد تتهاوى بمجرد الاطلاع على المعطيات والأرقام التي أفرزتها بعض الاستطلاعات.
فقد كشفت آخر دراسة قام بها "الديوان الوطني للأسرة" وهو منظمة حكومية تونسية أنّ 47 بالمئة من النساء في تونس كنّ عرضة للعنف مرة واحدة طوال حياتهن على الأقل. وشملت الدراسة عينة مكونة من أكثر من خمسة آلاف امرأة يمثلن كافة شرائح المجتمع التونسي، وقسمت الدراسة العنف إلى خمسة أنواع: عائلي، زوجي، اجتماعي، جنسي، وعنف عنصري أو إداري.
كذلك خلصت الدّراسة إلى أنّ امرأة واحدة من ثلاث نساء تعرضت إلى العنف. وقالت إن حوالى 50 بالمئة من النّساء المستطلعات اللواتي تتراوح أعمارهن بين 18 و 64 سنة كن ضحايا للعنف مرة واحدة على الأقل في حياتهن.
وقد أكّدت عدة جمعيات حقوقية تعرّض المرأة لشتى أنواع العنف والانتهاكات المعنوية والمادّيّة حتى بعد الثورة. كما كشفت رئيسة "جمعيّة النساء الديمقراطيات" سعيدة راشد أنّ عدد النساء المعنفات في تونس تضاعف ثلاث مرّات بعد الثّورة. ولفتت إلى أنّ مركز الاتصال التابع للجمعيّة تلقّى 358 اتّصالاً من نساء معنّفات خلال سنة 2013، منهنّ 84 بالمئة تعرّضن للعنف العائلي، و4 بالمئة للاعتداء الجنسي، و3 بالمئة للاغتصاب، و3 بالمئة لأشكال تعنيف أخرى من بينها التعرض للتعنيف في مراكز الأمن.
المرأة في الثورة
حين ثار الشعب التونسي، انطلقت المرأة والرجل يداً بيد من أجل الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية. لم يكن خروجها غريباً بقدر ما كان حضورها أكثر فاعلية، حيث تواجدت في الصفوف الأمامية بشكل فردي أو ممثلة لمؤسساتها النقابية أو الحزبية. فقدمت نفسها شهيدة وجريحة ورئيسة حزب وإعلامية وعضوة مجلس تأسيسي ومشاركة فاعلة في كتابة الدستور.
ولم تمثل الثورة بالنسبة إلى المرأة التونسية فرصة مهمة فقط للحفاظ على مكتسبات جنَتها في الماضي، وإنما لتحقيق ما تصبو إليه من أجل مجتمع عادل وحر يضمن لها المساواة التامة والفعلية إلى جانب الرجل.
مكّنت هذه المسيرة المرأة من حيازة 49 مقعداً في "المجلس التأسيسي" من جملة 217 مقعداً، وعلى حقيبتين وزاريتين.. حتى ظلت جزءاً لا يتجزأ من الحراك الاجتماعي والنشاط السياسي.
وقد أثيرت بعد الثورة مخاوف عدة حول مكاسب المرأة خصوصاً بعد اعتلاء حزب إسلامي كرسي الحكم، وبرزت مخاوف من إلغاء مجلة "الأحوال الشخصية" وإعادة إقرار تعدد الزوجات في تونس، إلا أن ذلك لم يحدث حتى الآن.