نصر يكشف المهزومين
تزداد القناعة، مع تردد أحاديث النصر والهزيمة في عدوان غزة والسجال حوله، بأن الناس في مجموعهم، وإن افترضنا حسن النية، منحازون إلى مستوى شاعري تخيلي من التعامل مع الواقع، حتى إن كان في أكثر حالاته صلابةً وثقلاً، والاقبال الواسع على هذا المستوى من التناول والفهم لا ينفي القناعة بكونه اختزاليا تبسيطياً، أو في أحيانٍ كثيرة، مريحاً يُسهّل اتخاذ موقف مما جرى ويجري.
اتضح، في الأيام الماضية، أن من يتصدّون للحديث بمنطق الربح والخسارة حيال الحرب والعدوان لا يبحثون عن المقاربة الصحيحة لما جرى، بل تلك التي "تناسبهم"، وللكلمة دلالاتها الواسعة. ولأن الانسحاب من هذه الحالة العامة غير يسير، لأنها تتكرس إعلامياً وشعبياً، لا بد من الالتفات إلى الطابع الشخصي والذاتي في فهم النصر والهزيمة. فهنالك من قد يكتفي بضحكة طفلةٍ ناجيةٍ من القصف، أو صرخة أبٍ يقدم أبناءه فداءً للمقاومة، ليرى فيهما النصر مجسداً، وهنالك من يراقب الدمار والخسائر المادية وأعداد الضحايا، ليرى في الأمر هزيمة وخسارة، وما دام الأمر في مستواه الشخصي فهو ربما عادي معقول، ولكن الدافع السياسي هو ما يجعل رفض هذه المقاربات ملحّا.
اللافت، اليوم، أن الدوافع والمحركات السياسية هي من تتستر بالمقاربة الذاتية والشخصية لما يجري، حتى تفرض مقولتها، هنالك خصوم سياسيون غرقوا في الفشل، وعجزوا عن الإتيان بأي نصر واحد للقضية الفلسطينية، لا يريدون أن يحقق غيرهم أي نصر، والأمر يتراوح بين الكيد النفسي وصراع النماذج بين تيار وتيار. وهنالك من يضعهم النصر في مواجهة جديدة مع سياساتهم واستراتيجياتهم والرضى الشعبي بها، وهنالك من يحرمهم انتصار الآخرين من احتكارهم الطويل خطاب الكفاح والثورة. وفوق كل هذا، هناك الإخوة الأعداء الذين يمثل انتصار أي فلسطيني في مواجهة مع إسرائيل هزيمة لهم.
طوال عقود، بنت الثورة الفلسطينية وفصائل المنظمة شرعيتها النضالية والكفاحية على تعداد الشهداء والأسرى، وبنى قادتها السياسيون والميدانيون، وتحديداً من تسنم منهم منصباً في السلطة؛ شرعيته النضالية على عدد سنوات الأسر مثلا. كل هذا وفق منطقٍ يجعل وفرة التضحيات (الخسائر بلغتهم اليوم) بطاقة تقدم وتصدر للقرار والمواقع. يكفي شعار أبو عمار الخالد "ع القدس رايحين شهداء بالملايين"!، واللافت أن هذا المنطق يختفي، اليوم، وكأنه باطل إن استخدمه غيرهم، والأسوأ أن من كانوا يصوغون بيانات النصر في معارك مع الاحتلال قبل أن تبدأ تلك المعارك، باتوا، اليوم، مهووسين في حسابات الموضوعية والدقة والخسائر والأرباح!
وفي سياق تناول العدوان ومعاركه اليوم تسود، وللطرافة، نزعة، بل ربما لوثة، خيالية غير واقعية عن الحرب كمعركة واحدة وحيدة يجهز فيها خصم على آخر، هكذا بكل طفولية ورومانسية هوليودية، حين يضع المنتصرون فوهة البندقية في رأس آخر المنهزمين، ويطلقون رصاصة الظفر المبرم. ومن البديهي القول إن من يتبنى هذه التصورات، ويروجها، لم يعرف معركة قط، ولم يخض قتالاً بمنطق عصرنا الحديث، أو هي الدوافع السياسية التي تتلبس الخطاب الشعبوي، وتستغلّه.
ولعل أخطر ما يسقطه هذا الخطاب، في تعامله مع مواجهة الاحتلال، هو النظر إلى كل جولة مواجهة، كحلقة في مسار طويل نحو الحرية والتحرير، هذا المنطق لا يرى غايات سامية، يسعى الفلسطينيون إلى نيلها ويقدمون في سبيلها التضحيات ويراكمون الإنجازات، لا يرى أي غد متجاوز لليوم. ولذلك، لا يفهم أو يدعي أنه لا يفهم أن كل اقتراب عملي ونفسي، تكتيكي واستراتيجي، من الغاية الأسمى للنضال هو نصر.
يضاف إلى ذلك كله أن أكثر من يخشى رؤية النصر وتحديده، ويحاول إخفاءه بكل المحاججات والأدوات، هو المهزوم بالضرورة. فنحن لا نرى النصر وحسب، بل نرى، من خلاله، المهزومين الحرصاء على إخفائه. وحتى لا يخلو لهم حتى ميدان التصورات الشخصية والذاتية عن النصر، يمكن القول إن من يرى السعادة الطافحة، والضحك الهستيري، في وجوه جنود الاحتلال، الناجين من غزة، يدرك أي نصر حققه الفلسطينيون هناك.