خلف الأبواب المغلقة في وجه الوباء العالمي الجديد، ثمّة نساء يتألّمنَ، معظمهنّ بصمت. هنّ يعجزنَ عن الإبلاغ عن عنف يتعرّضنَ له لأسباب تختلف طبيعتها، منها ما هو ممتدّ منذ ما قبل الحجر المنزلي ومنها ما هو بفعل الظروف الراهنة.
فاقم تفشي فيروس كورونا من الأزمات المتراكمة التي تعيشها النساء في العالم، وتأتي المعنّفات من بين الأكثر هشاشة وتضرّراً، لا سيّما أنّهنّ اليوم مُكرهات على ملازمة بيوتهنّ مع هؤلاء الذين يعنّفوهنّ سواء أكانوا أزواجا أم آباء أم إخوة أم غير ذلك. يحصل ذلك في بقاع كثيرة من العالم، وسط غياب للقوانين الرادعة والخطط المجتمعية التي من شأنها الحدّ من العنف في حقّهنّ. وكثيرات هنّ النساء اليوم اللواتي قد ينجونَ من مرض كوفيد - 19 الذي يتسبّب فيه فيروس كورونا الجديد، غير أنّهنّ لن يفلتنَ من انتهاكات واعتداءات تختلف أشكالها ما بين جسديّة وجنسية ولفظية ومعنوية على مدار الساعة وأيام الأسبوع، لا سيّما أنّهنّ محتجزات مع معنّفيهنّ تحت سقف واحد. بالنسبة إلى هؤلاء النساء، شعار "لازموا بيوتكم تكونوا في أمان" هو في غير محلّه.
وهذا الواقع دفع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس إلى الإلحاح على معالجة "الطفرة العالمية المروّعة في العنف الأسري ضدّ النساء والفتيات"، مشيراً إلى أنّ الإحصاءات كانت قد أظهرت قبل الانتشار العالمي للفيروس أنّ ثلث نساء العالم تعرّضن لشكل من أشكال العنف". والارتفاع المتزايد في حالات العنف المبلّغ عنها حول العالم ما هو إلا مؤشّر إلى الخطر المحدق بالنساء. وفي السياق أفادت الأمم المتحدة بأنّ "لبنان وماليزيا شهدا منذ بدء انتشار الفيروس تضاعفاً في عدد المكالمات على خطوط المساعدة، مقارنةً بالشهر نفسه من العام الماضي. كذلك تضاعف العدد ثلاث مرات في الصين، بالإضافة إلى تسجيل محرّكات البحث مثل غوغل أكبر عدد من عمليات البحث عن المساعدة في ما يتعلق بالعنف الأسري في الأعوام الخمسة الماضية في أستراليا".
وبخصوص لبنان، فقد ارتفعت نسبة البلاغات التي تلقّاها الخط الساخن 1745 المخصّص لتلقّي شكاوى العنف الأسري لدى قوى الأمن الداخلي بنسبة 100 في المائة في خلال شهر مارس/ آذار المنصرم، مع 88 اتصالاً مقارنةً بـ 44 اتصالاً خلال الشهر نفسه من عام 2019.
وفي السياق، تقول مسؤولة الحملات والتواصل في "التجمّع النسائي الديمقراطي اللبناني" حياة مرشاد لـ"العربي الجديد" إنّ "نسبة الإبلاغ عن العنف في لبنان عبر الخط الساخن للتجمّع ارتفعت في خلال شهر مارس/ آذار 2020 بنسبة 180 في المائة بالمقارنةً مع الشهرَين اللذَين سبقاه. كذلك فإنّ البلاغات كافة هي حالات جديدة لنساء اتّصلن بنا للمرّة الأولى، في حين أنّ 20 في المائة من هذه الحالات تُعَدّ حالات طارئة شديدة الخطورة، أي أنّ المرأة مهدّدة بالقتل أو تنوي الانتحار". تضيف مرشاد أنّ "13 في المائة من الحالات تعود إلى نساء تركنَ منازلهنّ هرباً من المعنِّف وبحثاً عن ملجأ آمن، مثلما حدث أخيراً مع شابة تبلغ من العمر 25 عاماً هربت من منزل زوجها وفق ما تبلّغنا من دون أن نعرف وجهتها حتى تاريخه، وهنا الخوف من تعرّض النساء المعنّفات للخطف أو القتل". وإذ تشير مرشاد إلى أنّ "طبيعة الاتصالات تغيّرت وكذلك طبيعة العنف المرتكب بعد قرار التعبئة العامّة وملازمة البيوت"، تعرض لنماذج حالات عنف وقعت حديثاً في لبنان وتداولتها وسائل الإعلام مثل "المرأة التي طعنها زوجها ستّ طعنات، وابنة الأعوام الخمسة التي قتلها والدها، وكذلك الفتاتَين اللتَين رماهما والدهما من الطبقة الثانية بعد شجار مع زوجته، والشابة التي رُميت جثّتها لتنهشها الكلاب".
وتدعو مرشاد إلى "التشدّد في قضايا العنف والتعاطي معها كأولوية، بالإضافة إلى إعلان خطة طوارئ اجتماعية لمناهضة العنف ضدّ النساء، أسوةً بخطة الطوارئ الصحية والأمنية التي نشهدها حالياً". وتشرح أنّ "المطلوب اليوم في ظلّ أزمة كورونا هو البحث عن بدائل لمساعدة النساء المعنّفات والمعرّضات للخطر، ما يساهم في تحقيق العدالة وترسيخ مفهوم الحدّ من الإفلات من العقاب. ومن هذه البدائل ما بادرت إليه قاضية الأمور المستعجلة في بيروت هالة نجا التي استمعت إلى حالات عنف عبر تقنيّة اتصال الفيديو لتعذّر إمكانيّة خروج الضحية من المنزل، وما قام به أحد القضاة عندما استند إلى توصيف العناصر الأمنية في المخفر لحالة الاعتداء الذي تعرّضت له إحدى النساء عوضاً عن تقرير الطبيب الشرعي، إذ إنّ الأطباء الشرعيّين بمعظمهم يتخلّفون عن الحضور إلى المخافر خوفاً من التقاط العدوى". وتتابع مرشاد أنّ "ثمّة مراكز إيواء تمتنع عن استقبال نساء معنّفات في خلال هذه الفترة، خوفاً من أن تكون إحداهنّ مصابة بفيروس كورونا، إذ إنّ تلك المراكز لا تملك التقنيات المطلوبة لإجراء الفحوص. وفي ظلّ هذا الواقع يبقى عدد من النساء من دون مأوى آمن".
من جهتها، نشرت منظّمة "أبعاد" على صفحتها الإلكترونية أنّ "التباعد الاجتماعي لا يعني العزلة الاجتماعية". وتلفت مؤسّستها ومديرتها غيدا عناني بحديثها لـ"العربي الجديد" إلى "عدم توفّر أرقام إحصائية دقيقة حول حالات العنف ضدّ النساء، لذلك نستند إلى الأرقام الواردة إلى الهيئات النسائية طلباً للمساعدة وإلى الاتصالات الواردة عبر الخطوط الساخنة لطلب المشورة، وكذلك الأرقام الواردة إلى قوى الأمن الداخلي لطلب المؤازرة الأمنية وتلك الواردة إلى الإعلام، لا سيّما الإعلام الاستقصائي". تضيف أنّ "نسبة طلبات المساعدة ارتفعت 20 في المائة في خلال شهر مارس/ آذار 2020 مقارنةً بالأشهر التي سبقته، وقد وردنا أكثر من 150 اتصالاً عبر الخط الساخن وستّة طلبات أسبوعيّة تناشد الحصول على الإيواء الآمن السرّي. وقد أفادت نساء كثيرات بتعرّضهنّ إلى انتهاكات وعبّرنَ بالتالي عن حاجتهنّ إلى المشورة والمساعدة مع تفاقم مخاطر العنف عليهنّ وعلى أطفالهنّ في ظلّ الحجر المنزلي". وترى عناني أنّ "هذه الأرقام هي مؤشّر بسيط فيما نسبة حالات العنف أعلى بكثير إذ إنّ النساء المعنّفات بمعظمهنّ لا يعتبرنَ العنف أولوية حالياً أمام التهديدات الصحية التي يفرضها فيروس كورونا. كذلك فإنّ مِن بينهنّ مَن لا يعلمنَ أنّ الخدمات الاجتماعية ما زالت تعمل على الرغم من الإغلاق العام، أمّا اللواتي يدركنَ ذلك فإنّهنّ يواجهنَ صعوبة في التنقّل أو الحصول على الموارد المالية المطلوبة أو التواصل والإبلاغ".
وإذ تقول عناني بأنّ "الحجر المنزلي ليس مبرّراً لارتكاب العنف الأسري"، تؤكّد أنّ "مرتكبي العنف هم الأشخاص الذين كانوا يمارسونه أصلاً قبل أزمة كورونا، أو أولئك الذين تدفعهم الأوضاع الراهنة وحالة عدم الاستقرار إلى ممارسته كونهم يملكون تهيّؤاً مسبقاً". وتطالب عناني بـ"النظر إلى العنف كمشكلة صحة عامة وإدراجها من ضمن أولويات خطة الاستجابة الصحية، إلى جانب إعفاء النساء المعنّفات من كلفة الرعاية الطبية والصحة النفسية وكلفة تقرير الطب الشرعي، وتخصيص خطّ ساخن مجاني لدى قوى الأمن الداخلي للإبلاغ عن حالات العنف. كذلك يتوجّب على وزارة الشؤون الاجتماعية تعزيز مساعداتها للأسر الأكثر حاجة وهشاشة، تفادياً لتعرّض النساء والأطفال إلى الخطر الناجم عن الظروف المعيشية الضاغطة". وتدعو عناني إلى "دعم مراكز إيواء النساء المعنّفات والمهدّدات بالخطر لتستوعب أكبر عددٍ ممكن منهنّ، خصوصاً أنّ لبنان يضمّ فقط ستّة مراكز إيواء، من بينها ثلاثة تابعة لمنظمة أبعاد. كذلك فإنّنا وفي ظلّ انتشار الفيروس، اتّخذنا تدابير احترازية وقائية للتأكّد من عدم وجود أيّ أعراض تدلّ على احتمال الإصابة قبل دخول النساء إلى مراكزنا. ونقوم كذلك بالتنسيق مع المستشفيات المعنيّة بإجراء الفحوص المخبرية الخاصة بفيروس كورونا، في حال ظهور أعراض أو في في حال احتكاك المعنّفة بشخص مُصاب".