نزيف الأدمغة... تونس تُفرَّغ من كفاءاتها الوطنية

23 ديسمبر 2018
ينتظر الرحلة التي تحمله بعيداً عن الوطن (الأناضول)
+ الخط -


كثيرة هي البلدان العربية التي تشهد هجرة كفاءاتها في ما يشبه نزيف أدمغة. لا تختلف تونس عن سواها في هذا السياق، فآلاف من أبنائها الذين يُعَدّون قيمة مضافة يهاجرون سنوياً. هي تخسرهم وهم يخسرونها كذلك.

تبدأ القصة بمجرّد إعلان من هذا القبيل: "تُعلم السفارة الكندية بتونس الراغبين في الهجرة إلى كندا بأنّه في إمكانهم المشاركة في ندوة على الإنترنت ستعقد يوم كذا في الساعة كذا وذلك للتعريف بالفرص الموجودة للعيش والعمل في الشمال الغربي الكندي. وسيقوم مسؤول من قسم الهجرة إلى أقاليم الشمال الغربي بالإجابة عن أسئلتكم حول الهجرة المؤقتة أو الدائمة إلى كندا. للمشاركة يتمّ تعمير (ملء) استمارة الترشح بكل دقة".

ويلاحظ المتابعون، لا سيّما من الشباب العاطل من العمل، أنّ الإعلانات على مواقع السفارات الأجنبية في تونس تكثّفت في السنوات الأخيرة بطريقة لافتة، بالتزامن مع توقيع اتفاقيات حكومية مختلفة بين تونس وعدد كبير من الدول العربية والأجنبية، وذلك بهدف منح فرص للكفاءات التونسية للعمل هناك.

وأخيراً، جرى تفعيل اتفاقية التعاون الموقعة بين "الوكالة التونسية للتعاون الفني" ومؤسسة "كيبك الدولية" لانتداب عدد من الكوادر والفنيين التونسيين. وتُعدّ هذه التجربة الثانية من نوعها بين المؤسستين بعد نجاح الأولى التي تمّت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017 وجرى على أثرها انتداب 64 تونسياً لفائدة خمس مؤسسات كندية من مقاطعة كيبك. وفي هذا الإطار، شدّد وزير التنمية والاستثمار والتعاون الدولي، زياد العذاري، على الدور الكبير الذي تضطلع به "الوكالة التونسية للتعاون الفني" في دعم التشغيل في الخارج، مشيراً إلى أنّه من بين أهداف السياسة التشغيلية التونسية التفاعل مع سوق العمل الدولي خصوصاً في ظلّ إقبال على الموارد البشرية التونسية التي بيّنت في مجالات عدّة مصداقيتها وتنافسيتها. أضاف العذاري أنّ المؤسسات الكندية سوف تنتدب 250 شاباً في مجالات متنوعة تهمّ السوق الكندي، من بينها قطاع التعليم والصحة والرياضة والتكنولوجيا والإعلام والميكانيك والكهرباء، موضحاً أنّه من المتوقع توفير أكثر من 200 فرصة عمل خلال الأسبوع المقبل، مع مؤسسات من كندا وفرنسا والخليج العربي وعدد من الدول الأخرى.

من جهته، أوضح مدير عام "الوكالة التونسية للتعاون الفني" البرني الصالحي أنّ ذلك يدخل في إطار انتداب كفاءات تونسية من قبل شركات كنديّة، وقد أُجريت مقابلات على مدى يومَين منذ الصباح الباكر وحتى ساعة متأخرة من الليل، بحضور مسؤول محلي من مقاطعة كيبك وممثلة عن وكالة "كيبك إنترناسيونال" المهتمّة بتنمية المقاطعة. وقالت الأخيرة إنّه جرى الاتفاق على انتداب شباب تونسيّين لإتقانهم اللغة الفرنسية والإنكليزية إلى جانب إمكانية تأقلمهم مع الحياة في كندا، وهو ما بيّنته تجارب سابقة في التعامل معهم. أضافت أنّ ثمّة 15 مؤسسة في كيبك تقدّمت بعروضها خلال المقابلات، مشيرة إلى أنّها سعيدة بمستوى الذين ترشّحوا للوظائف.

حزم حقائبه ويستعد للإقلاع (كنزو تريبويار/ فرانس برس)


طلب على كفاءات تونس

ولعلّ ما سلف يبيّن بوضوح "خصوبة الأرض التونسية" بالنسبة إلى الباحثين عن كفاءات، فالتونسيون يتقنون اللغات ويتأقلمون بسرعة مع الأوضاع المحلية هناك. لكنّ هذا النزيف لا يتوقف، بل يزداد حدّة ويتصاعد مع الأيام بسبب تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، خصوصاً مع غياب الآفاق في المدى القريب. وأوضح الصالحي في تصريح صحافي أنّ 67 لجنة فنية قصدت تونس خلال هذه الفترة بهدف انتداب واكتشاف ما تحتاجه من الكفاءات التونسية، من بينها لجان من دولة قطر والكويت والسعودية وكندا وسلطنة عُمان والإمارات العربية المتحدة والبحرين وإيطاليا وألمانيا وموريتانيا والأرجنتين، بالإضافة إلى عدد من الشركات الأجنبية غير المقيمة. وأشار إلى أنّ 262 عرض انتداب شملت معظم التخصصات، وردت "الوكالة التونسية للتعاون الفني".

تجدر الإشارة إلى أنّ ثمّة بيانات متداولة تفيد بأنّ 14 ألفاً و250 متخصصاً هاجروا إلى خارج البلاد في الفترة الممتدة ما بين يناير/ كانون الثاني 2018 وأغسطس/ آب منه. وبحسب تقرير لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، فإنّ تونس تأتي في المركز الثاني عربياً بعد سورية، في ما يتعلق بهجرة الأدمغة إلى الخارج. وقد قدّرت المنظمة عدد الكفاءات العلمية التونسية التي هاجرت إلى الخارج منذ اندلاع الثورة التونسيّة في عام 2011 وحتى عام 2017، بنحو 94 ألفاً تتراوح أعمارها ما بين 25 عاماً و45، لافتة إلى أنّ 84 في المائة منها اتجهت إلى دول أوروبية. أمّا العدد الأكبر من المهاجرين فكان من بين الأساتذة الجامعيين والباحثين بنسبة 24 في المائةـ أي ما يقدّر بنحو 25 ألف أستاذ وباحث.




في السياق، يقول عميد المهندسين التونسيين أسامة الخريجي لـ"العربي الجديد" إنّهم يعانون من هجرة الأدمغة، مؤكداً أنّ "شركات عدّة في اختصاصات الإعلام والهندسة صارت تعاني من جرّاء نقص الكفاءات والكوادر بسبب استفحال ظاهرة الهجرة. وما تتحدّث عنه الحكومة من انخفاض بسيط في نسبة بطالة أصحاب الشهادات العليا، لا يمكن اعتباره نجاحاً في استيعاب هؤلاء في سوق الشغل لأنّ كثيرين منهم مسجّلون كطالبي شغل في حين أنّ آخرين كثيرين هاجروا إلى الخارج". يضيف الخريجي أنّ "الإحصاءات التي نملكها تشير إلى هجرة ألفَين و500 مهندس سنوياً، ومع نهاية العام الجاري قد تصل الأرقام إلى ثلاثة آلاف"، مبيّناً أنّ نحو ثمانية آلاف مهندس بمختلف الاختصاصات يتخرّجون سنوياً لكنّ كثيرين منهم يهاجرون إلى بلدان عدّة، لا سيّما الأوروبية منها. بالتالي، يؤثّر ذلك على الاقتصاد وعلى تقدّم المؤسسات".

ويعيد الخريجي سبب تلك المشكلة إلى "غياب آفاق التشغيل في تونس التي من شأنها استقطاب الكفاءات من المهندسين، في ظلّ تدنّي الأجور التي لا تتعدى الألف دينار تونسي (نحو 400 دولار أميركي). فالمهندس، عندما يكون متخرجاً حديثاً ومن دون أيّ خبرة، يتقاضى في أوروبا نحو ثلاثة آلاف يورو 3500 يورو (نحو 10 آلاف دينار). وفي الآونة الأخيرة، صارت الشركات الفرنسية تقصد تونس خصيصاً للقيام بانتدابات للمهندسين التونسيين وتوظفهم من دون اشتراط عنصر الخبرة".

ويؤكد الخريجي أنّه "من الطبيعي أن تكون الهجرة هي الخيار في ظل البطالة وتدني الأجور. ومع تعاظم ظاهرة الهجرة، فإنّه لا بدّ من حلول جذرية والعمل على تطوير الاقتصاد و تحويله إلى عنصر جذب للكفاءات قادر على استيعاب طالبي الشغل بعيداً عن طول الانتظار. وتشغيل الكفاءات لا بدّ من أن يكون برواتب محفّزة ومقبولة، الأمر الذي من شأنه تمكين الكفاءات من العيش الكريم وبناء مستقبلها، خصوصاً في ظل تراجع الدينار والتضخم وغلاء المعيشة". ويشدد على أنّ "الأزمة كبيرة وهي انعكاس مباشر لاستفحال أزمة البطالة وتدهور الاقتصاد. فالأجور الحالية للمهندسين في تونس لا تبني مستقبلاً، والتحركات التي سبق أن خاضها المهندسون كانت من منطلق وعيهم بتأزّم الوضع، ما دفعهم إلى المطالبة برفع أجورهم".

ثمّة أمل وسط كلّ ذلك اليأس (فتحي بلعيد/ فرانس برس)


عواقب وخيمة

من جهته، يقول المكلف بالإعلام في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، رمضان بن عمر، لـ"العربي الجديد"، إنّ "المنتدى درس الهجرة ببعدَيها النظامي وغير النظامي، ووجد أنّه بالإضافة إلى الهجرة غير النظامية في تونس ثمّة ظاهرة هجرة الأدمغة. وهذه الفئة لديها فرص أفضل للهجرة بحكم التعليم والخبرة. وفي ظل حالة اليأس وغياب الثقة في المستقبل، صارت الكفاءات تبحث عن حلول أكثر وضوحاً من خلال فرص لعيش أفضل خارج تونس". ويؤكد أنّ "ظاهرة هجرة الأدمغة استنزاف لموارد الدولة وطاقاتها البشرية، ولها تأثيرات سلبية على تونس على المدى القريب والمتوسط والبعيد". ويوضح بن رمضان أنّ "الدولة انفقت أموالاً على هذه الكوادر من أطباء ومهندسين وأساتذة جامعيين. لكن، في حين تنتظر منهم عطاءً، فإنّ دولاً أخرى تستفيد منهم، ما يجعل البلاد تُفرَّغ من نخبتها. وهذا الأمر له تأثيرات سلبية على المؤسسات والإدارات التي تعاني من تراجع الأداء، يُضاف إليها تراجع على مستوى الكفاءات والرصيد البشري. ففي السابق، كان التراجع مرتبطاً بظروف مادية لكنّه صار اليوم مقترناً بمسائل بشرية".



ويتابع بن رمضان أنّ "كفاءات كثيرة اختارت الهجرة بحثاً عن فرص أفضل للعيش، خصوصاً أنّها تُعدّ بيئتها الحالية غير مناسبة مع تراجع مستمر في الظروف العامة، وهو ما يولّد لديها إحساساً بعدم الأمان الاجتماعي وبضبابية المستقبل، فتفضل بالتالي الهجرة على البقاء في بلدها، وهو ما سوف يكون له تداعيات وخيمة". ويلفت بن رمضان إلى "إحصاءات المنظمة الدولية للتنمية التي تبيّن أنّ 80 في المائة من الذين التحقوا بأوروبا وكندا هم من الكوادر العليا وخرّيجي الجامعات، وأنّ نحو 94 ألف تونسيّ هاجروا منذ عام 2011، معظمهم من الأساتذة والأطباء والمهندسين والتقنيين".
دلالات
المساهمون