نحو مقاربة جديدة للحرب ضد الإرهاب

18 نوفمبر 2015
+ الخط -
قد تعجز العبارة عن إدانة جرائم باريس الفظيعة وشجبها، فكل الكلمات قد تتحول إلى مجرد نثر مبتذل من النوع الذي ألفنا سماعه، عندما تتكرر مثل هذه الجرائم الرهيبة. ومع ذلك، لا بد من الشجب والإدانة القويين لما حصل، بسبب بشاعته وعدد ضحاياه، وأيضا للإعلان عن رفضه، وعدم تبريره بأي شكل. فمرة أخرى، كشف لنا تنظيم داعش الإرهابي عن بشاعة أساليبه في القتل والإعدامات وتنفيذ الهجومات. وكعادته، ما يبحث عنه هذا التنظيم، من جرائمه الفظيعة، هو الترويج الإعلامي لنفسه، واستقطاب مزيد من المرضى بسفك الدماء في أوساط أصحاب العقول المعتلة.
ما حدث في باريس كان نوعاً آخر من همجية داعش. ولا تحتاج الهمجية إلى وصفها، أو تحليلها أو تفسيرها، وأبعد من ذلك تقبلها أو تبريرها، الجواب الوحيد على مثل هذه الهمجية هو استئصالها قبل البدء في التفكير في أسبابها، والبحث عن طرق معالجتها. عندما يجتاح وباء البشرية، فإن أول ما تفعله هو عزل الحالات الميئوس منها، حتى لا ينتقل الداء إلى الآخرين. وما حدث في باريس أخطر من الوباء، لأن الوباء يمكن تشخيص أعراضه مبكراً، عندما يصيب الجسد.
من السهل تبرير ما حدث في باريس بأنه رد فعل على السياسة الفرنسية التي وضعت نفسها على رأس كتيبة الحرب العالمية ضد الإرهاب، بعد أن تراجعت أميركا عن قيادة هذه الحرب في عهد باراك أوباما، ففرنسا هي التي قادت، من طرف واحد، الحرب ضد المتطرفين في مالي، وهي تشارك في عمليات عسكرية إلى جانب العراق والأكراد ضد تمدد إرهاب داعش، وطائراتها تقصف منذ أسابيع معسكرات هذا التنظيم في سورية.
لكن، ليست فرنسا وحدها من يفعل ذلك، فهناك تحالف دولي كبير يقصف يومياً مواقع داعش في العراق وسورية. وكردود أفعال من هذا التنظيم على هذا التحالف، سبق أن تبنى الهجوم ضد تركيا، وإسقاط الطائرة الروسية فوق سيناء، وأعلن وقوفه وراء الهجمات التي ضربت باريس العام الماضي ضد جريدة "شارلي إيبدو"، ولم يتأخر عن تبني الهجمات الدامية التي شهدتها باريس أخيراً.
لذلك، يمكن القول إن مثل هذه الهجمات كانت متوقعة، وربما هي أيضا إشارة تحذيرات جديدة، يجب أخذها على محمل الجد، من التنظيم الإرهابي الذي يملك من القوة والمال والأنصار ما لم يملكه تنظيم إرهابي من قبله في التاريخ، من أن انتقامه قد يطاول أكثر من دولة، وأكثر من هدف، وأكثر من نفس بريئة.
أما الاستهداف فكان واضحاً ومعبراً، لأن التنظيم الإرهابي الذي برع في "اختراع" أساليب
التقتيل الهمجي، اختار بدقة، هذه المرة، أيضا أهدافه، وفي عبارة واحدة، هو استهدف نمط العيش الغربي الذي يقوم على تقديس الحرية وتمجيدها، ومثل كل خفافيش الظلام التي تخاف من النور، فإن "الدواعش" يخافون من الحرية، ولذلك يحاربونها.
التعريف البسيط للإرهاب هو التفسير الذي يصفه بأنه "عملية ماركوتينغ" بشعة للعاجزين عن التعبير عن أفكارهم بشجاعة، والدفاع عنها بالحوار والنقاش. إنه سلاح الجبناء الذين يخشون المواجهة في ساحة الفكر الحر. لذلك، يختارون الإعلان عن "وجودهم" و"أفكارهم"، إن كانت لهم أفكار أصلا، لترويج قتلهم وبشاعتهم وترهيب الناس وإخافتهم إقامة ناموسهم.
أسوق هذا التعريف الذي سمعته من مثقف ألماني، جمعتني به مصادفة، أخيراً، في برلين على هامش لقاء فكري، لأقول إنه حان الوقت للتفكير في إعادة النظر في مقاربة "الحرب ضد الإرهاب"، لأنها أعطت نتائج عكسية، منذ أعلنها جورج دبليو بوش عام 2001، فقد ازدادت العمليات الإرهابية في العالم منذ ذلك التاريخ، وأصبحت أكثر بشاعة ودموية، ولم تستثن أي دولة، والوحيدة التي استفادت منها هي أجهزة المخابرات في دول الغرب، والأنظمة السلطوية والشمولية في العالم.
طبعاً النظام السوري، وقبله العراقي، كانا موجودين قبل تلك الحرب، لكنها أعطتهما الذرائع للاستمرار، تماما كما سبق لها أن وفّرت أسباب الوجود للنظام المخلوع في تونس، وتفعل الشيء نفسه اليوم مع النظام الانقلابي في مصر. وباسم محاربة الإرهاب، أحكمت هذه الأنظمة قبضتها على حرية شعوبها ومصائرها، ودفعت آلاف الشباب في أوطانها إلى تبني فكر المتطرفين. إن أكبر من يعبئ الشباب في المنطقة العربية، وفي غيتوهات الأحياء المنتشرة على امتداد أحزمة المدن الغربية الكبيرة، للالتحاق بصفوف المتطرفين، هي سياسة المقاربة الأمنية الضيقة التي تبني "فلسفتها" على "الحرب العالمية ضد الإرهاب".
طبعاً، لا يعني هذا أنه يجب فتح الحوار مع التنظيمات الإرهابية، مثل تنظيم داعش، كما لا يجب أيضا فتح حوار مع نظام إرهابي، مثل نظام بشار الأسد في سورية، أو نظام مجرم مثل نظام عبد الفتاح السيسي في مصر، فكلهم تنظيمات وأنظمة وجوه متعددة للعملة نفسها التي ترفع أسهمها في السوق العالمية لمحاربة الإرهاب. تلك السوق التي تم تدشينها قبل 15 سنة، وحان الوقت لإغلاقها، لأن خسائرها أصبحت أكبر من نتائجها، أما أرباحها فلم يستفد منها إلا سماسرتها. وإغلاقها يجب أن يمر حتماً بتقديم سماسرتها للعدالة، لتقول كلمتها فيهم، لأنهم هم من عملوا، ويعملون، على استمرار أسباب وجودها.
وكما سبق أن كتبت، في "العربي الجديد" مرات، فإن العنف الذي ينسب إلى الإسلام والعالم العربي يجد دائما ما يبرره عند أصحابه بكونه، حسب زعمهم، رد فعل على ما يحصل منذ ستين سنة في فلسطين المحتلة من جرائم إرهابية وجرائم ضد الإنسانية، ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين. وأي حديث جدي عن محاربة الإرهاب على المستوى العالمي يجب أن يأخد بالاعتبار مقاربة مندمجة لهذه القضايا الثلاث: عدم التساهل مع الإرهاب، كيفما كان مصدره أو أيديولوجيته. لكن، بالعدل والقانون، وإعادة النظر في الحرب ضد الإرهاب ووسائلها وأهدافها، والبحث عن حل جدي لقضية فلسطين، يصون كرامة الفلسطينيين، ويعيد لهم حقهم التاريخي المغتصب، ويوفر الأمان للإسرائيليين.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).