نحو سردية جديدة للثورات العربية (4/3-4)

04 مارس 2015
نعلم أن تاريخ البشر ليس مساراً ساكناً (Getty)
+ الخط -

الربيع العربي ما بعد صيف الاستقطاب بين القوى الثورية


لعل تدوين توصيف محدد لثورات الربيع العربي الذي بدأ في 2011 لا يستطيع أن يتجاوز الآن مقولة أن هذه "الثورات" لا تزال تعيش نهايات مراحل صيفها (صيف الاستقطاب والمشاحنات واتهامات كل فصيل ثوري للفصائل الأخرى)... كان هذا الصيف في بدايته قائظاً جداً... كان الاستقطاب بين قوى الثورة قبل ميلاد الثورة المضادة أكثر حدَّة مما هو الآن... كانت الصورة لم تكتمل بعد... كانت البراءة "دافعاً" إلى "السذاجة" في اتخاذ القرارات وبناء التحالفات، وكانت دافعةً إلى التعجُّل والاستعجال في البحث عن ثمار الثورة وإنجازاتها. كانت قلة الخبرة وقصور الرؤية قاسماً مشتركاً بين الجميع، وإن كان القصور يحضر بدرجات متفاوتة. كانت حالة عدم الثقة بزميل ورفيق الثورة المُختلف فكرياً وسياسياً... وكذا افتعال الثقة بقوى ضد الثورة وضد الربيع العربي (سواء قوى سياسية أو دينية أو عسكرية) قاسماً مشتركاً بين الجميع بدرجات متفاوتة... تفاوتت الاستجابات للتحدي وتفاوتت مستويات الخطأ المنهجي والاستراتيجي والتكتيكي من كل مكون ثوري إلى آخر في طريقة الاستجابة...

الخطأ يجمع الجميع، ولا يمكنهم الفكاك منه إلا بعد تجربة قاسية وبعد أن يجرحهم أو يلفحهم أو يحرقهم صيف المواجهات بدرجة أو بأخرى... كان لا بد من احتراق الأصابع لتعرف معنى النار وتتحسّب منها في صيف الانقسامات اللاهبة. بعدها يأتي الخريف... الخريف يحضر ويزور الجميع لأن الكل يعيد التساؤل: لماذا ولحساب من سقطنا في كل تلك الانقسامات والاستقطابات؟ لماذا ولدت الثورة ألف فصيل وجماعة وجبهة ثورية وكتلة سياسية وحركة شبابية؟ يأتي الخريف بعد صيف الانقسام الساخن لتسقط القناعات الدوغمائية الثورية كأوراق خريفية زائلة، لكن جسم "شجرة الثورة" يظل قائماً، وإن كان يضيف لنفسه قوة من التجربة فيبحث لنفسه عن جذور أقوى في أرض الواقع بدلاً من التحليق في فضاء الخيال الثوري الحالم... تنتقل الثورة من السكرة والنشوة إلى الفكرة والمعرفة...

إننا ما نزال عند أول أعتاب مرحلة الخريف هذه، سواءً بعد تجربة مواجهات سياسية مجمهرة في تونس أو بعد انقلاب أيَّده كثير من الثوريين في بدايته في مصر على أنه ثورة، فصاروا صانعين للتاريخ بسعيهم نحو نحر ثورتهم بسكين الثورة المضادة وتسليم الثورة المضادة مقاليد البلاد مع كل الود والترحيب... تم تسليم القوات المسلحة إدارة شؤون البلاد بكل الود والترحيب بعد الثورة على حسنى مبارك... ثم تم تسليمها حكم البلاد بلا قيد ولا شرط وبكل الود والترحيب بعد الثورة على محمد مرسي.

في المرحلة الأولى، اضطرت القوات المسلحة، علي مضضٍ، لانتهاج خط الديمقراطية، فتمت صياغة دستور وعقد انتخابات برلمانية ورئاسية. وفي المرحلة الثانية، قام الحكم العسكرى دون مقاومة تُذكر (إلا قليلاً) بانتهاج خط آخر لصياغة دستور بديل وعقد انتخابات رئاسية تصل بقائد الانقلاب إلي رأس السلطة. المرحلتان مختلفتان تماماً في المسار وفي المصير. لكنه انتقال من ربيع ثورة يناير وصيف مواجهاتها إلى الثورة المضادة والحكم المباشر للدولة التي لم تعد عميقة بل صارت كاملة السيطرة وواضحة التسلط، ومن الشتاء المفروض على القوى المضادة للربيع العربي إلى ربيع الثورة المضادة وعودة أقوى وأقسى للحظة المؤسسة للنظام القديم، لحظة استيلاء العسكر على السلطة التي كانت في 1954 بعد ربيع مصري مبكّر برعاية عسكرية في 1952... عندها كان مصير محمد مرسي مثل مصير محمد نجيب وكان صعود عبد الفتاح السيسي مشابهاً لصعود جمال عبد الناصر...


ثورات الربيع العربي بانتظار خريف سقوط التحيزات

ولكي تكون مرحلة الخريف لدى الثورات العربية مثمرةً، وليست إعلاناً تمهيدياً للموت والنهاية، فإنها تحتاج ولابد أن تبدأ بالنقد الذاتي وبكشف الحساب، بمحاسبة الذات قبل محاسبة الآخرين، والبحث عن طريق جديد، والاستفادة من التجارب المؤلمة، وليس تبادل الاتهامات والبحث عن الخلاص من اللوم وتبرئة الذات...

إنه خريف يؤشّر لمرحلة سقوط دوجمائيات كثيرة، أغلبها ثورية ومخلصة وحسنة النية في المظهر ولكنها انقسامية ورجعية في الجوهر... عندها يتم العمل على بناء وتكوين "معرفة نقدية مشتركة" ما بين الفرقاء، ثم يتم مشاركة هذه المعرفة مع الآخرين والتواصل بها ومن خلالها معهم. وبهذه الآلية، يمكن أن تتغير الأفكار والقناعات تمهيداً لتغيير الأوضاع والظروف.

وبنفس المعيار، سيكون خريف الثورة الأصلية موازياً بالضرورة لصيف مواجهات وانقسامات وتساقط تحالفات الثورة المضادة. إن استكشاف عناصر ومكونات وشبكة مصالح وتحالفات وعلاقات الثورة المضادة ليس أمراً سهلاً ولا بديهياً بالنسبة للكثيرين.. لكن هذا الكشف سوف يضيف إلى رصيد الثوريين الأوائل والربيعيين المخلصين من أبناء ربيع 2011، وسوف يثري خبرتهم وتجربتهم، وهي نفسها الخبرة والتجربة التي تعلمهم التكاتف والتآلف والتعاضد والتضامن فيما بقي لهم مسار ثوري في المستقبل بعد الإسقاط الثاني للدولة العميقة. وبهذا المعيار، سوف يكون المسار بالنسبة للثورة الأصلية مسار استكمال وإعادة بناء وتجديد، بينما يكون بالنسبة للثورة المضادة مسار تفكيك وانهيار وتساقط. سيكون خريف التساؤل والتأمل والمراجعة لثوار يناير 2011 هو نفسه صيف التفكك والانقسام والصدام والانهيار لقوى الثورة المضادة وفصائل 30 يونيو 2013


السكون الذي يسبق عاصفة الثورة الجديدة ما قبل الربيع التالي...

هل يكون شتاءٌ للثورة؟ نعم... ولم لا...؟ أليس الشتاء فصلاً من الفصول لا يكتمل العام إلا به؟ ... كذلك الثورة، فإنها كي تشتد وتنهض، ومن أجل أن تنجز وتنجح وتتحقق، تحتاج إلى أن تتبع المسار كاملاً وتخوض التجربة كلها... تحتاج أن تقطع هذا الطريق الطويل الطويل إلى آخره وإلى آخرها (بحسب استعارة محمود درويش). إن هذا الشتاء، الذي لن يطول، سيكون ضرورياً لتكوين معرفة جديدة ومغايرة بعد مرحلة إنشاء وتأسيس المعرفة الناقدة للتحيزات والدوجمائيات السابقة... سيكون هذا الشتاء ضرورياً كذلك من أجل "بيات شتوي" تستجمع الثورة فيه طاقتها وقدرتها وترص صفوفها للدخول في مرحلة ثورية جديدة وربيع جديد يختلف كلياً عن الربيع الثوري السابق... إنه سوف يختلف بالقطع معرفياً وفكرياً وأيضاً بنيوياً ومؤسسياً، وكذا ممارسياً وخطابياً، وصولاً إلى صيغة جديدة تماماً، تضيف إلى مسار تغيير العالم واكتشافه من جديد أكثر من كونها تعيد إنتاج أية ثورة سابقة.

وبالقطع، لا يستطيع أحد أن يتخيل أو يدعي معرفته بشكل أو صورة أو هيئة أو صيغة ذلك الربيع القادم... لكن ما نعرفه عنه فقط هو أنه آتٍ.. آتٍ لأن تاريخ البشر ليس مساراً ساكناً، وما هو إلا تلاحُق انقطاعات معرفية ولحظات ثورية ونماذج تتتابع في التمظهر والتواجد واحتلال موقع المركز المرجعي والتفسيري واحداً بعد الآخر عبر مسار "الحوار" أو خطاب "المواجهة".


"إعادة إطلاق الثورة"

المسألة هنا يمكن أن نسميها "إعادة إطلاق الثورة" عن طريق مساعدتها في تجاوز مرحلة صيف المصادمات والمواجهات باتجاه باقي المراحل التي تنتهي بإعادة إطلاق وإعادة بعث وإحياء هذه الثورة/الثورات نحو ربيعٍ جديد. مقولة "إعادة إطلاق الثورة" هي مقولة خطابية تساعد كثيراً على بيان ضرورة إيجاد سردية جديدة للثورة واقعية/ تحليلية/ فاعلة/ متفاعلة/ متفائلة وحيوية تعيد إطلاق الثورة وتجددها.

(مصر)

المساهمون