نحو بناء سردية جديدة (1-4)

28 يناير 2015
تغذت نظرية المؤامرة على ميراث الخطاب الناصري (Getty)
+ الخط -

لنطرح التساؤل: هل انتهى الربيع العربي؟ هل كان هناك ربيع عربي أصلاً؟ مثل هذه التساؤلات تشغل مساحة واسعة من الفضاء السياسي والإعلامي، وكذلك الفكري والثقافي داخل الشرق الأوسط وخارجه. هل هناك فرصة للديمقراطية في هذا الجزء من العالم ليصير مثل باقي بلاد العالم الديمقراطي؟

إن منطلقات إطلاق هذا التساؤل، وتحميله بالإجابة، عديدة ومتعددة ومركبة، بل ومعقدة. فهناك من ينطلق من تصور متشائم حول إمكانية استكمال الربيع العربي للوصول إلى ديمقراطية تُدخِل الدول العربية، في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في حزام موجات الديمقراطية المتتالية التي شهدها العالم. المنطلق المتشائم قد يكون ناتجاً عن إحباط بسبب التوقعات العالية جداً التي أطلقها الربيع العربي، وقد يكون ناتجاً عن ترصُّدٍ وتربُّصٍ بالربيع العربي كان يريد فشله أو يتمنى زواله أو يعمل على تحقيق هذا أو ذاك.

وهناك من ينطلق من تصور يدّعي الواقعية والبراغماتية وفقه وفهم حركة التاريخ من خلال الافتراض، الذي يرى أنه لا يمكن الجمع بين "العربي" أو "الإسلامي" الشرق أوسطي من جهة، و"الديمقراطية" من جهة أخرى، لأن شعوب هذه المنطقة إما أنها غير مؤهلة بحكم طبيعتها وجيناتها السياسية، أو غير مستعدة وغير جاهزة بحكم اللحظة التاريخية، للسير في طريق الديمقراطية... مثل هذه المقولة أطلقتها مراكز السلطة في العديد من دول الربيع العربي من خلال الساسة المتواجدين في سُدّة الحكم أو المثقفين الذين يقفون ظهيراً لهم. وكان أشهر من أطلق هذه المقولة هو اللواء، عمر سليمان، الذي شغل موقع رئيس المخابرات العامة فترة طويلة في عهد حسني مبارك، كان الجنرال (ومعه دولة مبارك) كلها ترى أن المصريين غير جاهزين وغير مؤهلين للديمقراطية، بمعنى أن مبارك ومن معه في السلطة هم غير جاهزين وغير راغبين في "مغادرة السلطة" طواعية من خلال آلية ديمقراطية. هذه المناظرة حول الديمقراطية قديمة وليست مستحدثة بسبب الربيع العربي. إنها علي الساحة منذ أكثر من عقد من الزمن.

وهناك من ينطلق في طرح هذه التساؤلات عن نهاية مسار الربيع العربي، أو من يدَّعي أن هذا الربيع لم يوجد بالمرة من منطلق "نظرية المؤامرة" وأن الربيع العربي لم يكن سوى "مؤامرة غريبة" من خلال عدد من الناشطين، الذين تم تدريبهم على التحرك في الشارع باستخدام آليات جين شارب لإسقاط دول الربيع العربي وإسقاط نظم الاستقرار الحاكمة فيه.. نظرية المؤامرة تأخذ مدى أوسع عن الحديث عن "المؤامرة الكونية" ضد نظم الحكم القومية، التي ترفع راية المقاومة والممانعة (كما في حالة خطاب النظام السوري) أو التساؤل عن كون وماهية المحتجين والثائرين: "من أنتم؟" (في العبارة الشهيرة التي أطلقها معمر القذافي).

نظرية المؤامرة هذه تغذت أيضاً على ميراث الخطاب الناصري المستحدث والمستعاد في مصر بعد أحداث 30 يونيو/حزيران 2013، حيث تم التأكيد على وجود خطة/ مؤامرة ضد النظم المستقرة القائمة لإزالتها.. ويتشارك كم كبير من الفرقاء المتناقضين في هذه المؤامرة التي يسميها ويعددها الضابط المصري المتقاعد، عمرو عمّار، في كتابه "الاحتلال المدني"، بما يضع الولايات المتحدة وأوروبا وإيران وإسرائيل وقطر وتركيا كلهم جميعاً في سلة واحدة ويطرحهم كمجموعة في سلسلة واحدة، كأنهم فريق عمل يخطط وينسق ويتحرك أعضاؤه معاً من أجل "إسقاط الدولة المصرية"!!

خطاب المؤامرة كان أيضاً هو الخطاب الذي جرى تبنيه من كل فلول أو أزلام أو مؤيدي ومناصري النظم، التي تمت إزاحتها جزئياً من خلال الربيع العربي، ثم صار هو خطاب التبرؤ والتبرئة لدى قيادات هذه النظم، كما ظهر في محاكمة حسني مبارك ووزير داخليته، حبيب العادلي. كانت شهادة ابراهيم عيسى، مثلاً، مثالاً صارخاً على التحول من نقد واتهام مبارك طوال عقد كامل إلى محاولة تبرئة المتهم (مبارك) من قتل المتظاهرين، وتبرؤ الشاهد (ابراهيم عيسى) من ثورة يناير!!، بينما الصنف الآخر من "الواقعيين"، ممن كانوا سابقاً "ثوريين"، هو الذي ينطلق في تحليله من فرضية أن الربيع العربي وصل إلى خريفه ونهايته أو أنه كان بمثابة "الحلم العربي" الذي استفاقت منه الشعوب وجموع الشباب الثوريين التي تعترف الآن بالأمر الواقع – أو التي تقر بأن "الثورة تأكل أبناءها" وتنتهي إلى تسليم مقاليد السلطة إلى "الثورة المضادة"، أو التي ترى أن المواجهة مع "الدولة العميقة" غير مجدية لأن تلك "العميقة" منتصرةٌ لا محالة في نهاية الأمر.. هذه التصورات تحوِّل الثوريين إلى براغماتيين وذرائعيين أو انتهازيين من جهة، أو أنها تسجل انسحابهم وخروجهم من المشهد من جهة أخرى.. في المساحات التي انهارت فيها تجربة الربيع العربي بشدة، (مثل مصر)، يظهر الاتجاه الثاني (الانسحابي) وفي الحالات التي تكون أقل تضرراً (مثل تونس)، فإنه من الممكن أن يظهر الاتجاه الأول (النفعي الذرائعي)... لكن في كلا الحالتين تنتهي حالة الربيع العربي بانتهاء ثورية شباب هذا الربيع وانطفاء وهج حماسهم للتغيير الجذري.

وكان تيار التوبيخ والنقد ودعاية "ألم أقل لكم إن هذا لن ينفع"؟ متواجداً أيضاً، وله نصيب كذلك في طرح المسألة من زاوية أن الربيع العربي انتهى أو أنه لم يكن له أن يبدأ أبداً. هذه المجموعة تشتمل على التيارات الرجعية اليمينية، دينية أو علمانية، التي دخلت المشهد السياسي بعد غياب طويل بسبب الربيع العربي، ثم خرجت منه، إما بإزاحة الشباب الثوريين أو قوى التغيير لهم، أو باستنفاد الغرض من هؤلاء الانتهازيين لدى قوى الدولة العميقة والنظام السابق.

هناك مثالان أساسيان لهذا التيار في مصر،"حزب الوفد الليبرالي" من جهة، و"حزب النور السلفي" من جهة أخرى. ومن الممكن بسهولة العثور على تنويعات أخرى لمثل هذا الخطاب المعادي أو الخصم لثورة 25 يناير وسط تيارات وقوى أخرى كانت جميعها "كامنة" قبل الربيع العربي... ثم صارت "ناشطة" في إطاره باتجاه أجنداتها الخاصة.. إلى أن تصل إلى التحالف مع الثورة المضادة التي تحاول أن تستعيد لحظة ما قبل الربيع العربي أو تجد لها مكاناً في إطار الترتيبات الجديدة، التي تقوم بتطهير وإزالة كل آثار ومنجزات ثورات الربيع العربي للعودة إلى اللحظة التاريخية السابقة عليه.

وسواء كانت المسألة تتعلق بـ "نهاية الربيع العربي" أو أنه "لم يبدأ أصلاً" أو أنه "لم يكن له أن يبدأ" أو أنه "كان بداية خاطئة وصلت إلى غايتها"... سواء كانت المسألة تتعلق بهذا الخطاب / التصور / المنظور أو ذاك، فإن هناك حاجة أكيدة إلى بناء سردية جديدة حول قصة الربيع العربي وأطوار تطوره من نقطة إلى نقطة، ومن لحظة تاريخية إلى أخرى، لتفسير المرحلة الواقعية الآنيّة، واستشراف اللحظة المستقبلية التالية عليها. وفي كل الأحوال، تحتاج هذه الرواية/ السردية أن تكون واقعية لا خيالية، وقادرة على الفهم والتفسير، وليست غارقة في الافتراض والتنظير.. ولا بد على الأقل من محاولة أولى في هذه الإطار.

*مصر

المساهمون