لعلّ من أهم ما نحتاجه للسير على طريق الحكمة هو انتزاع أنفسنا من اعتبار المصطلحات المؤسسية والتصنيفات الأكاديمية مرجعاً وأساساً، وأنها تعكس الحقيقة وتصف الواقع، فهي مصطلحات وتصنيفات تصدر عن مؤسسات عبر مهنيين مرخّصين وخبراء هم بمثابة شرطة على الفكر والتعبير؛ شرطة لضمان السيطرة على عقول الناس وتخريبها عبر كلمات مصنّعة، تماماً مثلما تفعل المأكولات المصنّعة في تخريب الجسم. سأختار كلمة "بحث" لتوضيح ما أقوله.
من أكثر الكلمات الأكاديمية التي تلفّها هالة مبهرة، لكنها في الواقع وفي معظم الحالات تلهينا عما هو هام وجوهري في الحياة هي كلمة "بحث" التي نستعملها كرديف research بينما هي في الواقع رديف search.
جدير بالذكر كذلك أن الترجمة الدقيقة لكلمة research هي "إعادة البحث" والتي لا تعني ما نفعله في ما نطلق عليه research إذ من الأنسب أن نطلق عليه صفة "بحث محكوم من سلطة".
لا شك أننا نحتاج إلى إجراء بحوث بالشكل السائد في حالات محدودة ومحدّدة، لكن بالنسبة لغالبية الناس وفي معظم نواحي الحياة، يحتاج الشخص إلى التركيز على ما يبحث عنه في حياته والبناء عليه. "أنت ما تبحث عنه"… هذا ما قاله جلال الدين الرومي قبل 700 سنة، وهذا ما هو مغيّب في الوقت الحاضر لأنه يصبح من الصعب عندئذ السيطرة على الشخص في هذه الحالة.
إذا ركّز الإنسان على ما يبحث عنه يكون حاكماً لذاته ولمعانيه ومواقفه وأفعاله؛ بينما إذا قام بأبحاث كمتطلب للحصول على شهادة أو مقابل مال أو كجزء من وظيفة، فإنه يكون محكوماً في حياته وفكره وفق ما تمليه عليه سلطة ما.
ما يبحث عنه الشخص يشكّل جزءاً هاماً مما نشير إليه كهُوِيّته؛ أما الجزء الآخر الهام جداً كمكوِّن لهويته فيكمن في عبارة الإمام علي: "قيمة كل امرئ ما يحسنه". العبارتان مكوِّنان هامّان جداً في العيش بحكمة. جدير بالذكر هنا أيضاً أن المقولتين ترتبطان برؤيا حول الحياة وليس بمفاهيم ونظريات.
منذ 1971، وأنا أبحث عن معانٍ لكلمات مثل تعلّم ومعرفة وعلم ورياضيات وأيضاً عن مصدر لقيمة المرء، مغايرةٍ للتقييم العمودي السائد والذي يمزّق الإنسان والمجتمع ويسلبهما الكرامة (التي في رأيي أهم ما يميّز الإنسان).
في سعيي للبحث بمعنى search عن مصدر لقيمة المرء يحترم الإنسان وجدت نفسي أبحث بمعنى research عن كيف تعامل العرب القدماء مع مصدر قيمة المرء، ووجدته كما سبق وذكرت في عبارة الإمام علي والتي قرأتها لأول مرة في كتاب "البيان والتبيين" للجاحظ. ومنذ قراءتي تلك (عام 1997) عشت القناعة بأن البحث بمعنى research يخدم البحث بمعنى ما يبحث عنه الإنسان في حياته.
يشكّل ما ذكرته أعلاه - أيضاً - مثالاً على قضية هامة أخرى سأركّز عليها في وقت لاحق ألا وهي: تحرير الفكر والتعبير في عالمنا المعاصر أهم بكثير من حرية الفكر والتعبير.
* كاتب وتربوي فلسطيني