كأنّ هذا الوقت الذي نجهد محاولين عبوراً سليماً منه إلى أن ينقضي، دون إجراء مصالحات معه تؤدي للقبول أو الرِضا، أقرب ما يكون تمثيلاً لعنوان أشهر الكتب عن آرثر رامبو لدى القرّاء العرب: "رامبو وزمَن القتلة"! أو أن عنوان هذا الكتاب، الذي أظهر هنري ميلر في تحرياته التفكرية بصيرةً تأملية مدهشة، بانورامية ومجهرية، هو الوشم اللائق بوقتنا العربي الراهن! بزمننا غير السعيد، الطافح حد تخمة الخنازير النهمة، بجماعات منفلتة من القتلة طغت على مشهد حياتنا العام وصبغته بالدم، وعلى نحو يكاد يكون شاملاً!
قتلة بألقاب حكومية رسمية شتّى، وقتلة بأسماء شعبية معارضة بلا حصر! قتلة بربطات عنق أنيقة تلتمع تحت بروجكترات مصوري الحوارات التلفزيونية، وقتلة يهرشون شعور لحاهم المدللة بأصابع لم تُغْسَل بعد من دماء أبرياء يساوون، في غفرة أعدادهم، عشرات أضعاف "الأخوة الأعداء"! قتلة تربض على أكتافهم نجومٌ زائفة لا تضيء ظلمة ومظلومية ضحاياهم يَقتلون باسم الوطن، وقتلة يزعمون أنهم سيبلغون بنا النجومَ إذا ما آلت العروش لهم فيقتلون بذريعة الله! قتلة محليون، قتلة عرب أشقاء، قتلة مناصرون في المذهب، قتلة إقليميون، قتلة دوليون، قتلة متعددو الجنسيات، قتلة كأنهم سحابات سوداء متتابعة من الجراد تحجب عين الشمس!
أهذا زماننا، أهذا وقتنا، أهذه مرحلتنا، أهذا ما آلت إليه أوطاننا بعد عقود وعقود من "الاستقلال، و"التعليم العالي"، و"محو الأمية"، و"معارض الكتب الدولية"، و"الأنشطة الثقافية والفنية"، و"مهرجانات الأغنية والأفلام والرقص والموسيقى"، و"الجوائز الأدبية والفكرية"، و"البرلمانات المنتخبة"، وإلخ من لوازم القرن الحادي والعشرين التي تأكد لنا أن "لا لزوم" لها في نظر القتلة - إذ ثمّة المخبوء أكثر جسامة وتجذراً من كل المظاهر؛ فالمظاهر خادعة (كانت كذلك) وها الأقنعة كُشطت عن وجوه جميع القتلة!
ذلكم كلّه من أجل الوطن! ذلكم كلّه على أرض الوطن! ومهما كانت التسويغات الطائرة كالفراش المحترق تطلق مفرداتها: مدنية الدولة، دينية الدولة، ديمقراطية الدولة، محاربة الفساد، محاربة الإرهاب، إلخ إلخ؛ فإنّ خديعة كبرى ما زالت تُستنقَع فيها حياتُنا العربية. ما زال إنساننا العربي يُستهلَك ويُهْلَك بينما مطحنة الخديعة، متعددة الأسماء، ماضية في دورتها!
الدولة تعني شبكة من المؤسسات تعمل على تنظيم المجتمع الذي يعيش فوق أرض تُسمّى "وطن"!
وإنه هذا تحديداً ما قام بتعيينه آرثر رامبو، حين كتب في "فصل في الجحيم":
"أما الآن فعليَّ اللعنة، إني أفزع من الوطن. ولا أفضلَ لي من نومة الثمل على شاطئ البحر".
وكان منه أن هجر وطنه وارتحلَ ليصل إلى "حافة البركان" - كما وصف عدن! كأنّ أيّ مكان هو أفضل إقامة من الاستمرار داخل وطن إذا لم يقتلكَ فيزيقياً؛ فإنه لقاتلك مجازاً.. ويومياً.. وبوجهٍ لا يخلو من السخرية، والهزء، والتمادي في الوقاحة! فأين المفرّ لنا، نحن الذين ما عادت تنطلي علينا الخديعة؟ نحن الذين أصابتنا اللعنة وشاء "حظنا" التعس أن نعيش زمنَ القتلة هؤلاء؟
على وقع الثقل الكبير لهذا الإدراك والإحساس واليقين، تفتقت عبقرية اليأس عن اجتراحها الفذّ: قواربٌ نصفها نجاةٌ تسوطها المهانة، ونصفها الآخر موتٌ يلوح محتوماً! قواربٌ متهالكة تمخرُ بحاراً هائجة، وفي الوراء بلادٌ تصعد حرائقها إلى عنان السماء!
كأنها "إلياذة" التيه العربي و"أوديسا" حروبه الرعناء الطاحنة! ولعلّها كذلك. لذا؛ فإنها تحتاج لأكثر من "هوميروس" واحد لتُكتَب بكل فصول التراجيديا الصاخبة وأعماقها. فإذا كان "هوميروس" اليوناني ضريراً فعلاً وكتب ذاك التاريخ المشبوه في حقيقته؛ فإننا لم نجد بعد، من كتّابنا المبصرين، مَن يسطر للتاريخ ملحمتنا الحقيقية جداً.
أهذه واحدة من إنجازات القتلة في هذا الزمن؟
(كاتب وروائي أردني)
اقــرأ أيضاً
قتلة بألقاب حكومية رسمية شتّى، وقتلة بأسماء شعبية معارضة بلا حصر! قتلة بربطات عنق أنيقة تلتمع تحت بروجكترات مصوري الحوارات التلفزيونية، وقتلة يهرشون شعور لحاهم المدللة بأصابع لم تُغْسَل بعد من دماء أبرياء يساوون، في غفرة أعدادهم، عشرات أضعاف "الأخوة الأعداء"! قتلة تربض على أكتافهم نجومٌ زائفة لا تضيء ظلمة ومظلومية ضحاياهم يَقتلون باسم الوطن، وقتلة يزعمون أنهم سيبلغون بنا النجومَ إذا ما آلت العروش لهم فيقتلون بذريعة الله! قتلة محليون، قتلة عرب أشقاء، قتلة مناصرون في المذهب، قتلة إقليميون، قتلة دوليون، قتلة متعددو الجنسيات، قتلة كأنهم سحابات سوداء متتابعة من الجراد تحجب عين الشمس!
أهذا زماننا، أهذا وقتنا، أهذه مرحلتنا، أهذا ما آلت إليه أوطاننا بعد عقود وعقود من "الاستقلال، و"التعليم العالي"، و"محو الأمية"، و"معارض الكتب الدولية"، و"الأنشطة الثقافية والفنية"، و"مهرجانات الأغنية والأفلام والرقص والموسيقى"، و"الجوائز الأدبية والفكرية"، و"البرلمانات المنتخبة"، وإلخ من لوازم القرن الحادي والعشرين التي تأكد لنا أن "لا لزوم" لها في نظر القتلة - إذ ثمّة المخبوء أكثر جسامة وتجذراً من كل المظاهر؛ فالمظاهر خادعة (كانت كذلك) وها الأقنعة كُشطت عن وجوه جميع القتلة!
ذلكم كلّه من أجل الوطن! ذلكم كلّه على أرض الوطن! ومهما كانت التسويغات الطائرة كالفراش المحترق تطلق مفرداتها: مدنية الدولة، دينية الدولة، ديمقراطية الدولة، محاربة الفساد، محاربة الإرهاب، إلخ إلخ؛ فإنّ خديعة كبرى ما زالت تُستنقَع فيها حياتُنا العربية. ما زال إنساننا العربي يُستهلَك ويُهْلَك بينما مطحنة الخديعة، متعددة الأسماء، ماضية في دورتها!
الدولة تعني شبكة من المؤسسات تعمل على تنظيم المجتمع الذي يعيش فوق أرض تُسمّى "وطن"!
وإنه هذا تحديداً ما قام بتعيينه آرثر رامبو، حين كتب في "فصل في الجحيم":
"أما الآن فعليَّ اللعنة، إني أفزع من الوطن. ولا أفضلَ لي من نومة الثمل على شاطئ البحر".
وكان منه أن هجر وطنه وارتحلَ ليصل إلى "حافة البركان" - كما وصف عدن! كأنّ أيّ مكان هو أفضل إقامة من الاستمرار داخل وطن إذا لم يقتلكَ فيزيقياً؛ فإنه لقاتلك مجازاً.. ويومياً.. وبوجهٍ لا يخلو من السخرية، والهزء، والتمادي في الوقاحة! فأين المفرّ لنا، نحن الذين ما عادت تنطلي علينا الخديعة؟ نحن الذين أصابتنا اللعنة وشاء "حظنا" التعس أن نعيش زمنَ القتلة هؤلاء؟
على وقع الثقل الكبير لهذا الإدراك والإحساس واليقين، تفتقت عبقرية اليأس عن اجتراحها الفذّ: قواربٌ نصفها نجاةٌ تسوطها المهانة، ونصفها الآخر موتٌ يلوح محتوماً! قواربٌ متهالكة تمخرُ بحاراً هائجة، وفي الوراء بلادٌ تصعد حرائقها إلى عنان السماء!
كأنها "إلياذة" التيه العربي و"أوديسا" حروبه الرعناء الطاحنة! ولعلّها كذلك. لذا؛ فإنها تحتاج لأكثر من "هوميروس" واحد لتُكتَب بكل فصول التراجيديا الصاخبة وأعماقها. فإذا كان "هوميروس" اليوناني ضريراً فعلاً وكتب ذاك التاريخ المشبوه في حقيقته؛ فإننا لم نجد بعد، من كتّابنا المبصرين، مَن يسطر للتاريخ ملحمتنا الحقيقية جداً.
أهذه واحدة من إنجازات القتلة في هذا الزمن؟
(كاتب وروائي أردني)