الدولة العميقة ليست مصطلحاً مارقاً. إذ انتشر سريعاً بعد انطلاقة الثورات العربية لتوصيف أسباب المشكلات التي اعترت مسيرة الثورات، ولتبرير سبب بقاء الممارسات الامنية كما الاقتصادية والمالية على حالها، برغم إسقاط رؤوس الأنظمة.
أن يكون نظام محكوماً بعوامل خفية، وأن تقوم غير جهة بالتحكم بمصائر البلدان، وأن تنشأ تحالفات، تحت الطاولة، تقرر ما سيوضع على الطاولة... هي ظواهر موجودة في غالبية الدول في العالم، إلا أن واقع وجود الدولة العميقة في الدول العربية، مختلف.
الاختلاف يقوم أساساً على انكشاف أوراق اللاعبين الاقتصاديين. لا بل تجرؤ اللاعبين إياهم على كشف أوراقهم من دون حاجة إلى أي عمليات تورية، في مرحلة ما قبل الثورات، كما في مرحلة الثورات المستمرة التي نعيشها اليوم. وهذا الاختلاف ينطلق من واقع أساسه أن الأنظمة العربية بغالبيتها مافيوية بتركيبتها من رأس الهرم إلى قاعدته، وليست خاضعة لمافيات منفصلة عن هيكليتها، او لشبكة مصالح ضيقة تشكل جزءاً من هيكلتها العامة.
وبالتالي، يمكن القول إن ما يصطلح تسميته بالدولة العميقة في الولايات المتحدة أو أميركا اللاتينية أو تركيا أو غيرها من الدول، لا ينطبق على الواقع العربي.
بحيث إن الأنظمة هنا، هي بحد ذاتها مركّبة وذات مفاعيل شبيهة بممارسات الدولة العميقة، كون المصلحة الخاصة هي المحرك الأساس في هذه الأنظمة، وتركيبة هذه الأنظمة المافيوية هي بحد ذاتها هدّامة لأي محاولة لبناء دولة بالمعنى الحقيقي للكلمة. بعكس الدول الغربية التي يسيطر على شعاراتها العامة مصلحة الدولة العليا، لتخضع في سيرورة حكمها، واتجاهات قراراتها الكبرى... الى الدولة العميقة.
من تونس الى مصر ولبنان وسورية والعراق وليبيا وغيرها من الدول، نجد الحكّام يعملون وفق شبكة مفضوحة. ونجد الناس يعلمون خفايا الأمور، يجاهرون بها، يضعون كفهم على خدّهم ويقولون: "اللعنة على حكامنا". بعضهم قد يستمر في مبايعة الحاكم برغم معرفة فساده، في حين انه من المفترض أن يكون الناس هم أنفسهم لعنة الحكّام.
فأي تونسي أو مصري أو سوري أو ليبي (...) لا يعلم وبالأسماء، كل من يقبض على خناق اقتصاد بلاده؟ ومن لا يعلم من يسيطر على كبريات الشركات، ومن يدعم الحاكم الفلاني ويتلقى دعم الوزير الفلاني والسياسي الفلاني؟
ليس تحاملاً، وإنما حالة الرضى التي تنشأ على سراطها أجيال عربية كاملة، ليست سوى توصيف لواقع قد يصبح سلسلة خانقة لا فكاك منها.
مصطلح الدولة العميقة المنتشر في تركيا كما في أميركا اللاتينية، والذي اسقطه روبرت فيسك على بعض الأحداث التي وقعت خلال الثورة المصرية، وانتشر ليطال دول الثورات كلها، ليس سوى مصطلح مستورد، لا يقرب الواقع العربي بشيء.
فأن تنشأ الدولة العميقة، فهذا يحتّم وجود دولة أساساً، ويحتّم وجود ديمقراطيات قد تنشأ في ظلها تكتلات مصالح تتخوف من انفضاحها، لكي لا تُكشف أعمالها وآلية تحكمها بمفاصل الأمور في البلدان... هل هذه العوامل متوافرة في الدول العربية؟ ولماذا انطلق هذا المصطلح في الساحة العربية بهذا الشكل السريع؟
بداية، قامت الثورات العربية بعد ردود فعل عفوية للمواطنين، كل بحسب اعتراضاته الخاصة على أنظمة الحكم القائمة. لم تكن البيئة السياسية في هذه البلدان قادرة على استيعاب مشهد الجموع البشرية في الشوارع، فهي بيئة تم قمعها وتدجينها لسنوات، لتصبح في نمط تفكيرها متوائمة مع أنظمتها. ولم تكن الأحزاب المعارضة، على قلتها، قادرة على تلقي الكرة، لتصيب فيها الهدف وهو اسقاط الأنظمة، بسبب ضعف هذه الأحزاب وقلة تأثيرها في الشارع.
وبالتالي، بعدما أخذت الثورات المنحى الديني المتشدد، حاولت القوى المعارضة الأخرى تفسير ما يحصل، زادت حيرتها وضياعها بعد سقوط رؤساء الدول وحاشيتهم اللصيقة، وعدم توقف السلوكيات السلطوية التي كانت سائدة قبل اسقاط الرؤساء.
جاء مصطلح الدولة العميقة، ليضفي على الواقع العربي الغريب، بحراكه واتجاهه، غرابة فوق الغرابة. ليصبح المصطلح هذا، متناقلاً على أي لسان يبحث عن تفسيرات سهلة وسريعة ضمن مفهوم المؤامرة. وتصبح النتيجة المستخلصة والسطحية والسهلة: لقد سقط الرئيس ولكن بقيت الدولة العميقة.
إلا أن استهلاك هذا المصطلح أصبح ممجوجاً، لا بل أحبط أي أمل تغييري لا تزال الشعوب تتمسك به. وتحوّل مصطلح الدولة العميقة إلى عبارة تستر الحقائق بدلاً من كشفها، وتبرر نقاط الضعف في عملية التغيير خلال الثورات بدلاً من تقويم الأعطال البنيوية التي اعترت المساهمين بالتغيير من نخب وبرامج وسلوك مجتمعي.
فمن يريد الدخول في معركة مع شيء أو تنظيم أو هيئة مجهولة تسمى "الدولة العميقة"، يصبح كمن يحارب مسخاً اسطورياً أو تنظيماً سرياً غير قابل للهدم.
فعلياً، ما حصل في الثورات، وما بعد الثورات لا يحتاج الى تكابر. فمن شعار: "الشعب يريد اسقاط النظام"، سقط الحاكم وبقيت الأنظمة على حالها. وبقاء الأنظمة أنتج حكاماً مشابهين، في ليبيا كما تونس ومصر، ومن الأرجح أن ينطبق الواقع ذاته على سوريا.
وبقاء الأنظمة أبقى على تركيبة البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية ذاتها، لا بل زادت السياسات المعادية للناس لؤماً، بحجة لملمة خسائر الثورات.
ليست دولة عميقة، هو النظام ذاته بقي بعد الثورات، ولم يتغيّر سوى رأسه، والثورات العربية المستمرة لا بد من أن تحمل من جديد شعار: "الشعب يريد اسقاط النظام"، وأن يُبحث عن رأس جديد للدول يكون هدفه الأساس تطبيق هذا الشعار، وهدم السلسلة المافيوية التي تكوّن الأنظمة، من الأمن والسياسة والعسكر والمتحكمين بمفاصل السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وصولاً الى تحقيق التغيير الفعلي الذي يكبح الأنظمة في التجديد لنفسها الى أبد الآبدين.
وإلا، فإن الأنظمة ستبقى، لنصبح نحن الشبح السري الهدام الذي يسمى "الدولة العميقة".