نحن الأرقام وحقل التجارب

03 يناير 2015
+ الخط -
أحياناً، يصبح وجودنا في الشرق مثل حقل تجارب لدراسات وتقارير، تنجزها دول وجمعيات "بعيدة" عنّا. تُصبح الأمور أقرب إلى الدوس على مآسينا، لنصير أرقاماً فقط في محاضرات في غرف مكيّفة، تنتهي، غالباً، بإبداء التعاطف وعضّ الشفتين. هكذا يحصل حين تبدأ مختلف الأرقام بالبروز، مطلع كل عام. فقد ذُكر أن 76 ألفاً في سورية و15 ألفاً في العراق قُتلوا في العام 2014. بالطبع، سيُظهر بعضهم قلقه ويُبدي آخرون شفقتهم، وتدعو قلّة إلى حراكٍ ما لوقف آلة القتل. تقف الأمور عند هذا الحدّ. لا أحد سيقوم بما نظنّ أنه سيقوم به، لأنه تكلّم كثيراً. ليس كل من يتكلم يفعل. الدلائل كثيرة، لا فلسطين أولها، ولا سورية آخرها، وما بينهما من لبنان واليمن وليبيا وغيرها. جميعها شهود على ذلك. القتل وحده استمرّ، منذ استقلال الدول الشرق أوسطية عن الاستعمار حتى اليوم، عدا فترات قليلة من الاستقرار. تطوّرت وسائل تعداد الضحايا والإحصاءات المتنوعة تقنياً، وازداد عديد مراكز الأبحاث العالمية، وكثًرت وسائل نشر توصيات، لا تُنفّذ بمعظمها، في موازاة تطوّر وسائل القتل، وازدياد أعداد القتلى. لم تتغيّر الحال، منذ وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها (1939 ـ 1945)، وإن تغيّر أبطالها في كل حقبة. لم نتخطّ مرحلة التفكير بأننا قادرون على تخطي منطق الدونية الذي نحيا فيه. رحل الاستعمار، وبقينا دونيين.
يبدأ كل شيء، وينحصر في منطق التفكير الذي اعتدنا عليه. يكفي تبديل طريقة تفكيرنا إلى الأمور "الاعتيادية": الوطن أو الإنسان أو الحرية. يكفي وضع سلّم أولويات مبدئي، يتجاوز كل مفاهيم الخلافات، المبنية على الشخصانية. عبارة "يكفي" لا تعني أن الأمر سهل، فقد نحتاج إلى سنوات لإدراك جوهرها، غير أن الـ"يكفي" شبيهة بعملية اختيار طوعية، هذه المرة، لا مفروضة، كما نعتقد وكما ألفنا.
نُشرت أرقام الضحايا في سورية والعراق، تماماً كما نُشرت قبلها أرقام تتعلّق بفلسطين ولبنان وليبيا ومصر. وماذا بعد؟ ماذا فعل العالم في سنوات مماثلة وضارية؟ لا شيء. عمل على الترقيع من دون إجراء عملية جراحية شاملة. ومفهوم "الترقيع" ليس سوى محطة أساسية في عملية استفحال الأمراض لاحقاً. وهو ما يزيد من فداحة وجودنا في حقل التجارب. ليست المسألة مجرّد وجود مفروض علينا، حسب ما نعتقد ونريد في صميمنا، بات ملحاً الخروج من منطق أننا لا نصلح سوى لتأدية دور فئران التجارب.
وإذا أردنا حقاً الخروج من هذه الدوامة، ما علينا سوى التفكير بما سيحصل مثلاً بعد 10 سنوات. لا تتعلق القصة بتنبؤات أو توقعات، بل فقط بما نريد فعلاً. هل نريد، مثلاً، أن نبقى مجرّد أرقام، ولاهثين إلى رؤية أسماء بلادنا في ملفات يدوّنها أشخاص، سيعودون إلى بيوتهم نهاية اليوم، بينما ننصرف، نحن، إلى محاولة كسب يوم آخر، حتى نبقى فيه على قيد الحياة؟ لا يعني هذا أن إعداد التقارير والاحصاءات خاطئ، بل نحن المخطئون بحقّ ذاتنا لا أكثر.
وإن سعينا إلى الخروج من تلك العقدة، نقع في عقدة أخرى، عبارة عن تساؤل أبدي "هل نحن قادرون على فعل ما نريد، وعدم البقاء فئران تجارب؟". نعم، نستطيع. يكفي أننا بشر. مثل أولئك الذين ينهمكون بكتابة التقارير والإحصاءات عنا، ويرتشفون بضعة أكواب من القهوة أو كؤوس من الخمر. يكمن الفارق في تشكيلنا مادّة أبحاثهم فقط. فارق ضئيل لا يراه كثر. النمطية أقوى من التغيير حتى الآن. قد يسأل بعضهم: ماذا يمكننا أن نفعل؟ ربما يكون الجواب: لا تفعلوا شيئاً فسيكون أفضل مما تعتقدون أنكم تفعلونه، في انتظار أن تفعلوا ما يجب عليكم فعله... كل شيء متعلق بخياراتنا، لا بما يُفرض علينا.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".