15 نوفمبر 2024
نحبها رغم كل شيء
لم يمثل "الأخوان رحباني" في أيٍّ من فترات حياتهما الفكر الثوري، على أي مستوى، حتى الموسيقي والشعري، حيث بقيا في محيط القصيدة المحكية اللبنانية التي ظل سعيد عقل وميشيل طراد سيّديْها، وكل من جاء بعدهما لم يستطع تجاوز ما أنجزاه. وفي الموسيقى، مزج عاصي ومنصور بين اللحن الكنسي مع الموسيقى الشرقية، مستعينين بموسيقى غربية كلاسيكية، لإبداع خلطةٍ جميلةٍ ومدهشة، تخلصت من التطريب الشرقي الطويل، وصنعت مدرسةً موسيقيةً خاصة، لكنها لم تترك علامةً في الموسيقى العالمية، كما فعل التأليف الموسيقي الشرقي الأصيل. وكان لصوت فيروز الرومانسي الذي يبدو كأنه قادمٌ من السماء، ومحمولٌ على وساداتٍ من الغيم الأبيض، أو الطالع من جرس كنيسةٍ عتيقةٍ في قريةٍ وادعة، أن ساهم في تحويل الحالة الرحبانية، بمجملها، إلى حالةٍ محافظة إلى حد ما. أو إذا ما أخذناها بالبعد السياسي، يمكن تسميتها حالة إصلاحية، تسعى إلى تغييرٍ في الطبقات العليا، من دون أن يقترب من الجذور. يبدو هذا واضحا في الأعمال المسرحية الرحبانية، دائما هناك ملك أو حاكم جيد، لكنه محاط بحاشيةٍ تمنع عنه رؤية ما يجب أن يكون جيدا، لتساعده في الرؤية بنت فقيرة وبسيطة. لم تشذ عن هذا ربما غير مسرحية جبال الصوان، عن ثورة شعب ضد حاكم ظالم، ثورة دم، لا إصلاح.
هذا أيضا ما جعل علاقة الرحابنة بجميع الأنظمة العربية فيها كثير من المودة، (شأن يجب الحديث عنه بخصوص جميع الفنانين العرب). لم تغن فيروز لأي حاكمٍ عربيٍّ بالاسم، لكنها قدمت لعواصم عربية أغنيات خاصة. كان لدمشق النصيب الأكبر منها، ليس فقط لأن حفلةً سنويةً كانت مخصّصةً لها في معرض دمشق الدولي، بل أيضا كان ثمّة ما هو إيديولوجي في ذلك، حيث بدأت نشأة الأخوين الرحباني السياسية مع فكر أنطون سعادة، السوري الاجتماعي القومي. ومثلهم كان سعيد عقل الذي كتب معظم القصائد التي غنتها فيروز عن دمشق. ودمشق، بالنسبة للسوريين الاجتماعيين القوميين، هي درّة بلاد الشام، دمشق بتاريخها وعراقتها وحاضرها.
لم يعرف السوريون أغاني وطنية عن دمشق وسورية سوى أغاني فيروز. ما تم تقديمه أغنياتٍ وطنيةً سورية لغير فيروز والرحابنة كان كله في مدح حافظ الأسد. لهذا تبدو علاقة السوريين مع فيروز خاصة جدا واستثنائية، ليس لأن النظام فرض عليهم فيروز والرحابنة، كما كتب يوما صحافي لبناني كبير، بل لأن ثمّة تعويضا في ما كانت تقدمه فيروز والرحابنة للسوريين، تعويض عن أغنية وطنية، تجعلهم يشعرون بالفخر وبالانتماء إلى وطن حقيقي، اسمه سورية، يمكن التغنّي به، وكتابة القصائد عنه، من دون أن يكون مرتبطا باسم أحد. كان ثمّة تواطؤ لم يخطط له أحد بين فيروز والسوريين. لهذا ربما رافقت فيروز يوميات السوريين في كل فئاتهم ومناطقهم وانتماءاتهم وطوائفهم، حتى في مناطق الجزيرة العربية، حيث يتشابه المزاج مع المقام العراقي الحزين، ويبتعد عن الرومانسية المعقّمة التي تقدّمها فيروز. ومع ذلك، كان لحضورها مساحة كبيرة بينهم، لا تقل كثيرا عن مساحة الموّال العراقي.
وعلى عكس عائلته، كانت نشأة زياد الرحباني يسارية ثورية جذرية، على جميع المستويات. سخر في أعماله من منجز عائلته، في محاولةٍ منه لقتلها جميعها، وليس فقط قتل الأب. وعندما تعاون مع والدته، أنزلها من السماء إلى الأرض، ووضع قدميها في وحل الواقع، واستطاع استخدام صوتها الذي كان يفقد خاصيته شيئا فشيئا واحدا من العناصر الموسيقية الكثيرة في أعماله. لم يعد صوتُها رئيسيا مع زياد، ولم تعد معقّمة برومانسيتها. غنّت كلماتٍ بلا معنى، وغنّت ساخرةً من أغنياتها السابقة، خضعت فنيا لزياد، كما خضعت سابقا لأبيه وعمّه، حتى أنها في السنوات الأخيرة لم تعلق إطلاقا على تصريحات زياد السياسية عن مواقفها، على الرغم من أنها لم تعلن مرة أي موقف سياسي (خارج الأغنية) عن أي شيء.
موقفها الوحيد العلني والواضح كان إصرارها على البقاء في بيروت وقت الحرب اللبنانية، لم تعط تصريحا أو رأيا بالثورات العربية، لم تقل شيئا عما يحدث في سورية، لم تعلق بأي شيء. كل ما تم تناقله كان ما قوّلها إياه زياد الذي لم يختلف موقفه عن باقي معظم اليسار العربي في تأييده الاستبداد خوفا من الإسلام السياسي.
في عيدها الثالث والثمانين، وعلى الرغم من صمتها عما يحدث كله، سنظل نعوّل على صوتها لإحياء الضمائر الميتة.
هذا أيضا ما جعل علاقة الرحابنة بجميع الأنظمة العربية فيها كثير من المودة، (شأن يجب الحديث عنه بخصوص جميع الفنانين العرب). لم تغن فيروز لأي حاكمٍ عربيٍّ بالاسم، لكنها قدمت لعواصم عربية أغنيات خاصة. كان لدمشق النصيب الأكبر منها، ليس فقط لأن حفلةً سنويةً كانت مخصّصةً لها في معرض دمشق الدولي، بل أيضا كان ثمّة ما هو إيديولوجي في ذلك، حيث بدأت نشأة الأخوين الرحباني السياسية مع فكر أنطون سعادة، السوري الاجتماعي القومي. ومثلهم كان سعيد عقل الذي كتب معظم القصائد التي غنتها فيروز عن دمشق. ودمشق، بالنسبة للسوريين الاجتماعيين القوميين، هي درّة بلاد الشام، دمشق بتاريخها وعراقتها وحاضرها.
لم يعرف السوريون أغاني وطنية عن دمشق وسورية سوى أغاني فيروز. ما تم تقديمه أغنياتٍ وطنيةً سورية لغير فيروز والرحابنة كان كله في مدح حافظ الأسد. لهذا تبدو علاقة السوريين مع فيروز خاصة جدا واستثنائية، ليس لأن النظام فرض عليهم فيروز والرحابنة، كما كتب يوما صحافي لبناني كبير، بل لأن ثمّة تعويضا في ما كانت تقدمه فيروز والرحابنة للسوريين، تعويض عن أغنية وطنية، تجعلهم يشعرون بالفخر وبالانتماء إلى وطن حقيقي، اسمه سورية، يمكن التغنّي به، وكتابة القصائد عنه، من دون أن يكون مرتبطا باسم أحد. كان ثمّة تواطؤ لم يخطط له أحد بين فيروز والسوريين. لهذا ربما رافقت فيروز يوميات السوريين في كل فئاتهم ومناطقهم وانتماءاتهم وطوائفهم، حتى في مناطق الجزيرة العربية، حيث يتشابه المزاج مع المقام العراقي الحزين، ويبتعد عن الرومانسية المعقّمة التي تقدّمها فيروز. ومع ذلك، كان لحضورها مساحة كبيرة بينهم، لا تقل كثيرا عن مساحة الموّال العراقي.
وعلى عكس عائلته، كانت نشأة زياد الرحباني يسارية ثورية جذرية، على جميع المستويات. سخر في أعماله من منجز عائلته، في محاولةٍ منه لقتلها جميعها، وليس فقط قتل الأب. وعندما تعاون مع والدته، أنزلها من السماء إلى الأرض، ووضع قدميها في وحل الواقع، واستطاع استخدام صوتها الذي كان يفقد خاصيته شيئا فشيئا واحدا من العناصر الموسيقية الكثيرة في أعماله. لم يعد صوتُها رئيسيا مع زياد، ولم تعد معقّمة برومانسيتها. غنّت كلماتٍ بلا معنى، وغنّت ساخرةً من أغنياتها السابقة، خضعت فنيا لزياد، كما خضعت سابقا لأبيه وعمّه، حتى أنها في السنوات الأخيرة لم تعلق إطلاقا على تصريحات زياد السياسية عن مواقفها، على الرغم من أنها لم تعلن مرة أي موقف سياسي (خارج الأغنية) عن أي شيء.
موقفها الوحيد العلني والواضح كان إصرارها على البقاء في بيروت وقت الحرب اللبنانية، لم تعط تصريحا أو رأيا بالثورات العربية، لم تقل شيئا عما يحدث في سورية، لم تعلق بأي شيء. كل ما تم تناقله كان ما قوّلها إياه زياد الذي لم يختلف موقفه عن باقي معظم اليسار العربي في تأييده الاستبداد خوفا من الإسلام السياسي.
في عيدها الثالث والثمانين، وعلى الرغم من صمتها عما يحدث كله، سنظل نعوّل على صوتها لإحياء الضمائر الميتة.