تحول وزير الاقتصاد السابق الشاب المرشح للانتخابات الرئاسية الفرنسية، إيمانويل ماكرون إلى كابوس يقض مضجع المرشحين الآخرين، سواء في اليمين أو اليسار، بعد أن كرس سمعته في المشهد الانتخابي، وأصبح يجذب نحوه الآلاف من الفرنسيين المترددين، الذين باتوا يرون فيه بديلاً مقنعاً وواعداً بالمقارنة مع الشخصيات التقليدية في اليمين واليسار.
ولم يكن أحد يتوقع أن يتحول هذا الشاب المغمور، الذي أخرجه الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، إلى دائرة الضوء وضمه إلى فريقه الانتخابي في عام 2012 خلال الحملة الرئاسية السابقة، إلى مرشح رئاسي ذي مصداقية، يخيف عتاة السياسيين المخضرمين ويزرع البلبلة في مخططاتهم الانتخابية. وحتى وقت قريب، عندما استقال ماكرون من منصبه في وزارة الاقتصاد في حكومة مانويل فالس، وأعلن تأسيس حركة سياسية جديدة باسم "إلى الأمام"، تمهيداً لإعلان ترشحه للرئاسيات، كان محترفو السياسة يراهنون على أن ماكرون لن يصمد طويلاً في المعترك. غير أن مياهاً كثيرة جرت تحت الجسر، وتراكمت مفاجآت كثيرة صبت بمجملها لصالح المرشح الشاب، ومنها خصوصاً تخلي هولاند عن ترشحه للرئاسيات، والإقصاء المدوي للمرشحَين نيكولا ساركوزي وألان جوبيه في تمهيديات اليمين والوسط. كما أن الانقسام الكبير في أوساط اليسار، مع إصرار جان لوك ميلانشون على الترشح، ومشهد التشرذم الذي تعكسه الانتخابات التمهيدية في صفوف الحزب الاشتراكي، ساعد ماكرون على شحذ أسلحته والتغلغل في المسرح الانتخابي.
ويوماً بعد يوم، تزايدت شعبية ماكرون، وصارت استطلاعات الرأي أخيراً تمنحه نسبة 20 في المائة من أصوات الناخبين في الدور الأول من الرئاسيات، ما يؤهله بقوة للولوج إلى الدور الثاني، خصوصاً إن فشل فالس بالفوز في تمهيديات الاشتراكي. وشيئاً فشيئاً، بدأ ماكرون يحتل المرتبة الثالثة في ترتيب الرئاسيات، بعد مرشحة حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف، مارين لوبان، ومرشح حزب "الجمهوريون" اليميني فرانسوا فيون. وبالتوازي مع حضور قوي ومنتظم في مختلف وسائل الإعلام التي تقدم له مساحة هامة في تغطياتها السياسية، فاجأ ماكرون الجميع عندما برهن أنه قادر على ملء مدرجات الملاعب والقاعات الضخمة بآلاف الفرنسيين، خلال تجمعاته الانتخابية في مختلف المدن الفرنسية، في حين يعجز مرشحون آخرون عن ملء قاعات صغيرة، لا يتجاوز الحاضرون فيها العشرات.
والسبت الماضي، ألقى ماكرون خطاباً في قاعة مزدحمة بنحو 5 آلاف شخص، وسط مدينة ليل التي تترأس بلديتها زعيمة الحزب الاشتراكي السابقة، مارتين أوبري، وهي واحدة من أشد خصومه شراسة، وتشن عليه حملة متواصلة منذ توليه وزارة الاقتصاد، وتنتقد سياسته الليبرالية والإصلاحية. وفي باريس، جذب ماكرون نحو 12 ألف شخص في 12 ديسمبر/كانون الأول الماضي. وحتى في المدن الصغيرة، باتت تجمعات ماكرون تجذب آلاف الفضوليين الذين يحبون أن يروا المرشح الشاب عن كثب، بعد أن اعتادوا ظهوره على شاشات التلفزيون.
ويرى بعض المراقبين السياسيين أن ماكرون يستفيد من تشابك عوامل عدة، يختلط فيها الاجتماعي بالسياسي، وبظهور معطيات إقليمية ودولية، مثل "بريكسيت" البريطاني وانتخاب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ما قد يحوله إلى ظاهرة مجتمعية، وأصبح موضوع نقاش عام في الشارع، ومن المحتمل أن يتبلور حوله إجماع شعبي كبديل شاب يطرح حلولاً جديدة للمعضلات الاجتماعية القديمة، كالبطالة والسياسة الضريبية والهجرة خارج الأفكار المعتادة للمؤسسات الحزبية التقليدية ورموزها. ويشكل ماكرون التهديد الأكبر لمرشحي تمهيديات الحزب الاشتراكي، وعلى رأسهم مانويل فالس وأرنو مونتبورغ وبونوا هامون، الذين يخوضون حالياً حملة مستعرة من أجل الفوز بلقب المرشح الرئاسي. ورغم أنه لا يشارك في هذه التمهيديات فإن شبحه حضر فيها بقوة، خلال المناظرتين التلفزيونيتين الأخيرتين. واضطر المرشحون الثلاثة الأوفر حظاً إلى استحضار ماكرون وانتقاده، لوعيهم أنه في حال فوز أحدهم فسيكون العقبة الأساسية في الحملة الرئاسية، لكونه استقطب سلفاً أعداداً مهمة من المتعاطفين الاشتراكيين المتذمرين من الانقسام الذي نخر الحزب وأضعفه في عهد هولاند. وما زاد في الطين بلة أن عدداً من المقربين من هولاند أشهروا إعجابهم ودعمهم لماكرون، ومنهم وزيرة البيئة الحالية ورفيقة هولاند السابقة، سيغولين روايال، وحتى وزير الخارجية جان مارك إيرولت الذي خلق المفاجأة الأحد الماضي، بتأكيده أن "ماكرون رجل يساري"، وتلميحه إلى أنه في حال عدم أهلية مرشح الاشتراكي الرسمي لخوض الرئاسيات بنجاح يجب على الاشتراكيين بذل كل الجهود لدعم مرور مرشح يساري إلى الدور الثاني. وهناك أيضاً المحامي جان بيار مينار، وهو من أصدقاء هولاند المقربين الذي أعلن أخيراً انضمامه إلى اللجنة السياسية لدعم المرشح ماكرون.
وانتقل الخوف إلى معسكر فرانسوا فيون الذي كان حتى وقت قريب يترفع عن الهجوم على ماكرون، ويعتبره مجرد فقاعة إعلامية سيضمحل صداها مع مرور الوقت. وتأجج خوف معسكر فيون بعد أن بات ماكرون يهدد باستقطاب شريحة من القاعدة الانتخابية اليمينية والوسطية، خصوصاً في أوساط الشباب ذوي النزوع الليبرالي الراغب في تجديد النخبة السياسية. وبعد استطلاعات الرأي أخيراً، دق مستشارو فيون ناقوس الخطر أمام احتمال مرور ماكرون إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، بدل مرشحي اليسار من الرئاسيات، وهو الاحتمال الذي سيعزز قدرته على امتصاص أصوات ناخبي اليسار في الدور الثاني، في حال المواجهة مع فيون. وتكفلت شخصيات يمينية عدة بالهجوم على المرشح الشاب، منهم رئيس الوزراء السابق، جان بيار رافاران، الذي وصف ماكرون بـ"الابن غير الشرعي للرئيس هولاند"، ورئيسة منطقة باريس الكبرى، فاليري بيكريس، التي اعتبرته "مرشح التناقضات والرؤية الضبابية". وأخيراً أجمع معسكر فيون على شن هجوم إعلامي على ماكرون يركز على أنه "مرشح النخبة"، وسليل المؤسسة السياسية الذي عينته وسائل الإعلام، وليس الشعب.
وانضمت مرشحة اليمين المتطرف، مارين لوبان إلى الهجوم الجماعي على ماكرون، بعد أن أصاب الهلع معسكرها من تعاظم شعبيته في استطلاعات الرأي، واحتمال مواجهته في الدور الثاني، وأيضاً قدرته على اصطياد أصوات يمينية ووسطية كانت تخطط بدورها إلى استمالتها. كما أنها لم تستسغ قيام ماكرون بتنظيم تجمعات انتخابية في بعض معاقلها الانتخابية في الجنوب وأيضاً في الشمال، وانتقاده للأفكار العنصرية التي يروج لها حزبها. وانتقدت لوبان بشدة أخيراً التناول الإعلامي المتكرر لماكرون، على أساس أنه مرشح من خارج النظام السياسي، معتبرة أن ماكرون هو "مرشح إملاءات الاتحاد الأوروبي التي توَجه من بروكسل، وهو يمثل التوجه الليبرالي المتشدد المدافع عن العولمة". وشددت لوبان على أن ماكرون ينحدر من أوساط المال والمصارف، وهو "سليل نفس النخبة السياسية التي يدعي الخروج عليها"، بل إنها ذهبت إلى حد التهكم عليه، وقارنت شعبيته بتلك التي يتمتع بها مغني موسيقى البوب الكندي الشاب، جاستين بيبر الذي يلقى رواجاً كبيراً في صفوف المراهقات.