ناصر رباح.. عابرٌ آخر بثياب خفيفة

09 يونيو 2014
+ الخط -
"عابرون بثياب خفيفة" هي المجموعة الثالثة للشاعر الفلسطيني ناصر رباح (غزة، 1963)، بعد "الركض خلف غزالٍ ميت" (2003) و"واحدٌ من لا أحد" (2011).

نستشفّ في المجموعة (دار فضاءات، 2014) نموذجَين من القصائد: الأوّل يعتمد على تقنية السرد، ويتّخذ شكل القصيدة الأفقيّة أو ما يُسمّى بقصيدة الكتلة، أي المكتوبة على شكل فقرات. وتتميّز هذه القصائد بتخفّفها من عناصر التكثيف والاختزال، وبلجوئها إلى الوصف كأداةٍ تُعبّر عن الحالة النفسية وتقلّباتها لدى الشاعر، وعن علاقته مع الأشياء من حوله؛ علاقات غالباً ما تكون صراعية بين ثنائياتٍ يومية، يكون الشاعر طرفاً فيها: "قلتُ: سأخلعُ عند البابِ ثيابي، قال السجنُ: رائحتي صدأٌ يتسلّق الذكرياتِ، ستخرجُ منّي، فأسجنُ فيك".

ونلحظ من خلال هذا المقطع وغيره أن رباح يلجأ كثيراً إلى المونولوجات، الداخلية منها والخارجية، وأنه بالتالي كثير المساورة لنفسِه، يقفُ أمام الأسئلة التي تطرحها ذاته عليه، فيفسّرَها ويكتشفَ مكانَها في ظلّ الصّخب اليومي الدائر، بهدف العبور "بثيابٍ خفيفة". ومن هذه التساؤلات: "من أخرجني من علبة صمتي، مَن أشعل عود الثقاب وأطلق لُهاثي، فامتلأ الوقتُ بالدخان والنزق؟".

ولا يكتفي رباح بطرح الأسئلة، بل يحاول الإجابة عليها، آملاً بالعودة إلى نقطة البداية: "ليتَ لي جُرأةُ السيلِ/ رقّة الينبوع/ دهشة الشلال./ ليت لي فرحةَ الغيم في التجوال". أملٌ صريح بالتخفّف من ثقل العناصر المُكوّنة له، من طين الجسد.

وفي بعضِ قصائده يقع رباح في وصف فائض، فيأتي تداعي الصور الشعرية والتشابيه على حساب المعنى: "رأى داخلَه.. نهرَ موسيقى ملوّنة تحفّه سهولٌ من الماسِ المضيء بشمسٍ شتائية ناعمة تتسلّل من خلال أشجارٍ ترقصُ حالمةً على ضفته".

أما النموذج الثاني فيتألف من قصائد تضمّ كل واحدة مجموعة مقاطع قصيرة مُرقّمة، ترتكز على التكثيف والإتيان بالخُلاصات الشعرية، ويُقدّم الشاعر فيها مفارقاتٍ طريفة عبر إشراقاتٍ تدلُّ على حساسية عالية وقدرة على تصوير الحالات وتحويلها إلى مشاهد بصريّة: "بدموعِها الخضراء لا تكفّ الأشجارُ عن البكاء/ ونحنُ لا نكفّ عن سرقةِ الفاكهة".

ورغم مهارة رباح في صياغة هذه المقاطع المكثفة وتصويبها بدقّة، إلّا أنّه يلجأ أحياناً إلى صور مطروقة، خصوصاً تلك التي تتحدث عن الحبيبة، كقوله: "كأسُ النبيذ يسكرُ من يدِكِ"، أو قوله: "كيف نلتقي يا حبيبتي/ ونحن وجهان لعملةٍ واحدة؟".
                                     
________


كنتُ تراباً

كنتُ تراباً يتخلّلني العشبُ كدغدغةٍ خفيفةٍ، تعبرني الغيومُ أو الفتياتُ حين يخرجنَ من بابِ مدرسةٍ قريبةٍ، يغسلُني المطرُ والبرَدُ وتلوحني الشمسُ والمحاريثُ في مرورِها الباهتِ على حقلِ حنطةٍ في النواحي البعيدة لقريةٍ باهتةٍ. كنتُ تراباً كأي ترابٍ منذوراً لبساطته لا يشغلُه الوقتُ، ولا تهمّه المسافةُ والعابرون. في ظهيرةٍ لم أعد أذكر إلا ظهيرتها الناتئة كمسمارٍ في حائطٍ، لم أرهم حين جلبوا الماء وجلبوا ترابي فأُغشي عليّ. لم أُدركْ حقيقةَ أمري إلا بعد سنواتٍ من إفاقتي المرعبةِ أحدّق في مشهدٍ واحدٍ مكرور، عندما أدركتُ أنني أصبحتُ حجراً في زنزانةٍّ! حجرٌ يحدّقُ في جدارٍ أعمى طوالَ الوقت، يعدُّ أيامَهُ بجروحٍ يحزّها السجناءُ على صمتِه البارد، بالموتى المغادرين، بالآتين إليّ حاملين على ظهورهم المنكسرةِ حقيبةَ الأمل. الأملُ الذي تركته هناك مبعثراً في ظهيرةِ حقلٍ بعيدٍ بعيد.

 

بائع جرائد

قلبُه كان بائعَ جرائدَ يرمي تحياته على عتباتِ البيوتِ ويمضي، لا أحد ينظرُ نحو عينيه المبللتين بالندى والحنين، لا أحد يسأل عن ساقيه الموردتين بالتعب والمتحشات بالمسافات. يعرفُ الأبوابَ من رائحةِ الخشب، من كثافة الدِّهان، من عشبٍ الممر، ويعرفُ أن خلف كلّ بابٍ لياليَ دافئة، وحدائق على وشك النهوض من أحلامها، وثياب نومٍ تموءُ جنب السرير، يعرفُ أنه الطائر الوحيد، الذي يعبر المدينة حتى يسقطَ من إعيائه وهو يبذر الحبَّ على الشرفات، فلم يعد هناك من يشتري جرائدَ أو يمرّر عينيه ببطءٍ، ويقرأَ في صفحات القلب.

المساهمون