لا تزال الشاعرة العراقية نازك الملائكة (بغداد، 1923 - القاهرة، 20 حزيران/يونيو 2007) حاضرة في ذاكرة الثقافة العربية، إلا أن ركيزة هذا الحضور ليس نصّها، أو مجمل مشروعها الإبداعيّ بين الشعر ومحاولات التنظير والكتابات الفكرية والنقدية، وإنما لا تزال حاضرة بفضل موقعها تاريخياً ضمن خطّ التحوّلات التي عرفها الشعر العربي، ومثلت مرحلة صعودها في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي إحدى منعطافاته. باختصار، تُذكر الملائكة في سياق الفرضيات التأسيسية لما يُعرف بقصيدة التفعيلة والتي كانت تفضّل هي أن تسمّيها بـ"الشعرَ الحرّ"، ومن المعلوم أن هذا الخطّ مثّل أحد أهم لحظات التغيير في التاريخ الطويل للشعر العربي.
يوجد ترجيح طفيف لصالح الشاعرة العراقية على حساب "الآباء" المفترضين الآخرين، مثل بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري وصلاح عبد الصبور، ناهيك عن افتراضات أخرى، ذلك أن الملائكة كانت الأحرص على توثيق نشر أعمالها وبالخصوص التعليق على تجربتها الشعرية وتوضيح كيفية تبلور الشكل الجديد في ذهنها، وأكثر من ذلك كانت الأقدر من بين الآخرين على تكوين وعاء نظريّ لهذا الطرح الشعري الجديد، سواء بفهم نسبته العميقة لتاريخ الشعر العربي أو مقارنته بتحوّلات الشعر في الثقافة الغربية، وأيضاً بملامسة علاقة الشكل بتحوّلات العصر وضرورة تجاوز الهياكل المتوارثة، أو أيضاً عبر تفصيلها الممكنات العروضية بالعودة إلى منظومة الخليل نفسها وبناء رؤية جديدة.
كان من الواضح - عند الملائكة - أن هناك عقلاً مفكّراً يعمل إلى جانب العقل الإبداعي، لكن في حين أفادتها هذه الخصوصية ضمن البُعد النظري التأسيسي فإن نفس العامل يبدو قد لعب ضدّها على صعيد المُنتج الفنّي، حيث لا نجد أن مسيرتها من أول مجموعة شعرية؛ "عاشقة الليل" (1947) إلى آخرها؛ "الصلاة والثورة" (1978) قد عرفت خطاً تصاعدياً، ففي ما عدا تطوّرات أسلوبية وثيمية يكتسبها الشعراء بالدربة أو بتعمّق تجاربهم في الحياة لا نجد أن الملائكة قد حقّقت تدفّقاً حقيقياً ضمن الأفق الذي تصوّرته.
وبالمحصّلة، لم يكن من الممكن أن تكون قصيدة نازك الملائكة نموذجاً لشعر التفعيلة لاحقاً، فرغم التحوّل الموسيقي والشكلي الذي أدخلته فإن شعرها يبدو أقرب في مناخاته إلى جيل مدرسة أبولو (بين عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين) منه إلى الرؤية الشعرية التي حملها جيلها، والذي بلوره السيّاب بالخصوص وانتزع من خلال النص موقع الريادة ولو لم يكن له مساهمة تنظيرية كالتي قدّمتها مواطنته.
لكن من الجدير القول بأن الملائكة لم تذهب إلى أقصى حدود التنظير لـ"الشعر الحرّ"، حيث أن فكرها حول الشعر قد تناثر بين مقدّمات أعمالها ومقالاتها، ولم يظهر في عمل موحّد مبنيّ على جهد تأليفي، وحتى كتابها النثري الأشهر "قضايا الشعر المعاصر" كان تجميعاً لمقالات غير مترابطة إلا بالموضوع العام. وإذا تساءلنا ما الذي حال دون إخراجها لرؤيتها النظرية في مؤلّف سنقف على فرضيات عدة، منها شخصية نازك الملائكة التي كانت تمتنع عن الاختلاط بالحياة الثقافية، وقد يعود ذلك إلى ذكورية الفضاءات الثقافية العربية، إضافة إلى تلك الروح الحساسة الحزينة التي تتبدّى في شعرها ونثرها.
ومن الجدير الملاحظة أن كتاباتها النقدية والتنظيرية لم تكن سجالية بحال، فهي تستند إلى نظام حجاجيّ هادئ ووقور قائم على المعرفة بالأدب، تقنية وتاريخاً، أكثر من مجادلة ما حولها ومن حولها أو التفاعل معها/ معهم، وكأنها كانت تخشى أي ردّ، مفضّلة البقاء في برج عاجيّ لعله يحميها من سهام الباحثين عن المعارك الأدبية.
لكن الأهم من ذلك، هو أن إنتاج "نظرية" حول طرح شعريّ جديد يحتاج إلى بيئة تتلقى هذا النوع من الكتابة، أو بعبارة أخرى أن تكون هناك تقاليد للتنظير حول الأدب، وهو ما لم يكن متوفراً بحال في الثقافة العربية وقتها، ولعل الأمر لا يزال كذلك إلى أيامنا. كثيراً ما يجري الخلط بين منطقة التنظير الأدبي هذه، والنقد من جهة والدرس الأكاديمي من جهة أخرى، كانت الملائكة تتحرّك خارج هاتين الضفتين، وقد أوردت بالتالي تنظيرها في قالب المقالة لا غير في الصحافة أولاً ومن ثمّ تجمعها في كتب. ولعل شخصيتها الهيّابة لم تكن تسمح لها بأن تبني هذا الفضاء برمته - فضاء الكتابة النظرية في الأدب - ما لم يكن جاهزاً ومعترفاً به بشكل مسبق.
وبالعودة إلى مقولاتها في الشعر، سنجد أثر هذا التهيّب أيضاً، فبعد أن قطعت شوطاً طويلاً في فهم انعكاسات القوالب الشعرية القديمة على تشتيت الشاعر وقطع تدفّقه النفسي، لم تذهب صاحبة كتاب "الصومعة والشرفة الحمراء" في تقويض معمار الخليل إلى أبعد حدّ كان يمكن أن تصله، فأقامت طرحها الجديد لـ"الشعر الحر" على عنصرين لا أكثر: التخلي عن القافية المُوحّدة وعن القالب العمودي الذي يعتمد نفس عدد التفعيلات في مجمل القصيدة.
لكن، وفي سياق اجتهاداتها، يُحسب لنازك الملائكة بعض القراءات والمقولات المفيدة التي تتجاوز السياق المباشر لانشغالاتها، من ذلك عرضها في كتاب "سايكولوجيا الشعر" لتاريخ القصيدة العربية انطلاقاً من مفهوم القافية باعتبار أن التغيّر الذي يطرأ على تعامل الشعراء مع القافية يرسم خطّ تطوّر القصيدة كشكل فنّي يختزن أبعاد حضارة في مجملها، من الانتقال من نموذج النص الشعري الموروث عن الأصل الأول (الفترة الجاهلية) إلى ظهور الموشّح الأندلسي، ثم ظهور نمط البَند في العراق، وصولاً إلى الشعر الحرّ، وضمنه تشير إلى طرح يقول بهجر القافية تماماً بل واستهجان حضورها، وهي هنا تؤكّد على مناهضتها القطعيّة لهذا التوجّه، حيث ترى أن "القافية تفتح للشاعر أبواب معان مبتكرة" وأنها "مفتاح سحري يقودنا إلى مناطق غير واعية من العقل الباطن للشاعر".
وعلى مستوى آخر، درست علاقة القارئ العربي بالقافية، فاعتبرت أنها "وسيلة أمان واستقرار"، مشيرة إلى أنها حين تقرأ قصيدة بدون قافية تشعر "بأنها في متاهة وأن الدروب تضيق وتتعاكس وتغيب في ضباب مرعب"، وهي تعلّق على قصيدة غير مقفاة بالقول: "أدى غياب القافية التي هي حدود آمنة إلى أن تصبح القصيدة تيهاً يدير الرأس ويسلب الإنسان الطمأنينة، فيحسّ أن الوجود غابة رهيبة لا وضوح فيها ولا محطة للتنفّس". ونحن نقرأ منها ذلك، ربما نفكّر أن كتبت ما كتبته متأخرة بعقود عن إعلان الشعر الحديث صراحة - وقبله الفلسفة - أن دور الكاتب قد بات في جوهره إضاءة الرعب الذي يسكن العالم.
يبقى أن ما تقوله الملائكة - على ما يبدو عليه أحياناً من غلوّ - هو رأي يسري بين القرّاء العرب بشكل واسع دون أن يلتفت إلى مدلولاته الدارسون. وإذا كان من غير الممكن أن نستفيد اليوم من تنظيرات الشاعرة العراقية بتطبيقها، فإنه من الضروري الارتكاز على تأملاتٍ وملاحظاتٍ كهذه لفهم تحوّلات في تلقي الشعر وعوائقه وكيفية تصريفه كطاقة في المجتمع، كما أنها انشغلت برصد العملية الشعرية من الداخل، وهو من النادر في ثقافتنا.
بشكل ما، يمكن أن نرتّب طروحات الشاعرة العراقية في مسائل حول الشعر كموسوعة لإشكالياته من القضايا العامة المرتبطة بالإلهام والعلاقة بالوعي العام والأسئلة الوجودية إلى مسائل دقيقة مثل حضور الثقافة الأجنبية في مرجعيات الشاعر أو أثر الإيقاع والموسيقى والحروف والألفاظ المنتقاة لأداء المعنى.
تُحدّثنا مثلاً عن استعمالات العامي أو الدخيل في الشعر، فترى بأنه إهدارٌ لثروتنا اللفظية وأن هذه الاستعمالات تُفقدنا تيارات تسري في الصيغ التي استوت على مدى أجيال نطقت بالعربية، فالألفاظ الجديدة بحسبها تكون غريبة عن التصميم الأساسي للغة. كما تُحدثّنا في موضع آخر عن خطر الترجمات السيئة والتي تجعلنا "نخسر الكتابَ المترجمَ كما يخسرنا"، مشيرة إلى أن الترجمات الضعيفة كانت سبباً في "تحويل الركاكة إلى مذهب في التعبير"، وكانت تدعو إلى أن تكون الترجمة انتقائية تقوم على مصلحة الأمة لا على مقاييس الشهرة عند الآخر، كما فعل الأقدمون حين ترجموا من اليونان والفرس.
لعلنا نقف هنا على عناصر إجابة كثيرة تفسّر العزلة التي اختارتها نازك الملائكة وجعلتها تكاد تبدو غائبة - وهي من أشهر أعلام الأدب في القرن العشرين - على مدى العقود الثلاثة الأخيرة من حياتها. كانت الإشكاليات التي طالما تخوّفت منها قد صارت الأمر الواقع للحياة الثقافية برمّتها، ولم تكن تملك إلا العزلة مثل الرومانسيين ممن تحبّ أن تقرأ لهم وتكتب مثلهم، بغض النظر عن تحوّلات العالم من حولها.
أبعد من الشاعرة
تظلّ صفة الشاعرة غالبة على نازك الملائكة، غير أن قراءة مجمل أعمالها يضعنا أمام توازن بين الشعر والنثر، وفي المساحة الثانية نجد تنظيراتها حول الشعر ونصوصاً فكرية مهمّة.
كان أبرز هذه التأملات الفكرية قد صدر في كتاب بعنوان "التجزيئية في المجتمع العربي" الذي جمعت فيه مقالاتها الفكرية من الخمسينيات إلى سنة صدوره في 1974، وفي مقاله الرئيسي تقترح مفهوم التجزيئية وتقدّم من خلاله قراءة واسعة في إشكاليات المجتمع العربي الذي أخذ يجزّأ الظواهر ويَفصلها عن بعضها حتى فقد كل فرصة لحل أزماته التي تترابط ضمنها كل العناصر. فالتجزيئية تنتهي بنا إلى "زاوية ضيقة تصدر منها أحكام مصطنعة تزيدنا حيرة وارتباكاً".
ترى المؤلفة أن هذا الواقع أفرز إنساناً بات يشعر في قرارة نفسه أنه هو الآخر مجزّأ، وهو ما يخلق حالة عامة من القلق هو بالنسبة لها "جرس إنذار ترسله أعماقنا الصامتة"، وينبغي أن نهتدي بتوجيهاته لأننا أجدر بحياة أسمى من الحياة التي نعيشها.
تضرب الملائكة مثالاً طريفاً عن نتائج التجزيئية، حيث تشبّه هذا الوضع بصنع خيّاط لقفاز بأربعة أصابع لكف إنسان طبيعي. التجزيئية هي الاعتقاد بأن الحل هو بتر الإصبع الخامس لكي يكون على مقاس القفّاز. وما أكثر ما يحدث ذلك بيننا دون شعور حتّى بألم البتر من فرط ما باتت تبدو فيه التجزيئيةُ الوضعَ الطبيعي.