لم تكن كاتبة جنوب أفريقيا، التي رحلت أول أمس، ملتزمة بالمعنى الحرفي للكلمة، لكنها كانت مسكونة بهاجس فضح تناقضات نظام الفصل العنصري وآثاره المدمرة وسرد قصص الظلم العرقي والطبقي والمعاناة الوجودية للسود رجالاً ونساء في المجتمع الجنوب أفريقي.
ولدت نادين غورديمير في 20 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1923 في ضواحي جوهانسبورغ من أب ليتوياني يهودي وأم إنجليزية مسيحية. تربت في بيئة بورجوازية بيضاء بمرجعية كاثوليكية. وبسبب معاناتها من مرض القلب في طفولتها ومراهقتها كانت تقضي جل وقتها في المطالعة والقراءة وهي طريحة الفراش.
ومن القراءة النهمة مرّت بسرعة الى الكتابة في سن مبكرة (15 عاماً) بتشجيع من والدتها التي ربّتها على الإنجليزية بدل الأفريكانية، لغة الأقلية البيضاء التي يكتب بها معظم الكتاب في جنوب أفريقيا. وعندما بلغت العشرين من العمر كانت غورديمير قد اقتحمت سلفاً معترك الكتابة الاحترافية وكوّنت اسمها بفضل المواظبة على النشر في المجلات الأدبية الأميركية المتخصصة مثل "نيو يوركر" و"نورث أميريكان ريفيو" وغيرها.
عام 1949 أصدرت أولى مجاميعها القصصية تحت عنوان "فحيح الحية الرهيف" وعندما بلغت الثلاثين أطلقت عليها الصحافة الثقافية الأميركية لقب " كاترين مانسفيلد الجنوب أفريقية" بسبب قرابتها الأسلوبية في فن القصة القصيرة مع الكاتبة الأمريكية كاترين مانسفيلد. ورغم ولعها بالقصة وإتقانها للسرد القصير، جرّبت غورديمير المغامرة الروائية وأصدرت تباعاً روايتي "الأيام الكاذبة" و"عالم من الغرباء" لتدشّن بهما مسيرة كتابية غزيرة اشتملت على خمس عشرة رواية وما يعادلها من المجاميع القصصية بالإضافة الى ثلاث دراسات نقدية وسيرة ذاتية.
عام 1974 دخلت غورديمير عالم الشهرة بعد فوزها بجائزة "بوكر" للرواية ثم ولجت بقوة العالمية والتاريخ الأدبي من أوسع الأبواب عندما نالت جائزة "نوبل" للآداب عام 1991.
انتبهت غورديمير مند نعومة أظفارها إلى المعاملة المجحفة التي يتعرّض لها الأطفال السود عندما رأت بأم عينيها المعاملة الفظة للخادمات الزنجيات في منازل الجيران. فهمت مبكراً الطبيعة العنصرية والطبقية للمجتمع فتعاطفت تلقائياً مع السود في معركتهم المصيرية ضد الفصل العنصري. تعرّضت للمضايقات من طرف السلطات بسبب هذا التعاطف وعام 1958 تم منع روايتها "عالم من الغرباء" لكونها تتناول قصة صداقة مستحيلة بين شاب إنجليزي وشابة من جنوب افريقيا.
جعلت غوردومير من النضال ضد الفصل العنصري قضيتها الأولى وكانت مقرّبة من نيلسون مانيلا، الذي حرص على رؤيتها فور خروجه من السجن لكونها واحدة ممن ساهموا بفعالية في الحملة الدولية لإطلاق سراحه. وبفضل وضعها الاعتباري ككاتبة شهيرة حصلت على هامش كبير للترويج لقضية النضال ضد الأبارتايد في المحافل الدولية. واعتبرت نفسها دوماً "أفريقية بيضاء" ورفضت بشدة أن توصف بـ"كاتبة بيضاء من أفريقيا الجنوبية".
رفضت تصنيفها ككاتبة ملتزمة بالمعنى الأيديولوجي للكلمة وصرّحت ذات مرة: "انخرطت بقوة في الكفاح ضد نظام الفصل العنصري لكني اتحدى أيا كان في أن يجد أثراً للبروباغاندا في قصصي ورواياتي".
وحين انهار نظام الفصل العنصري وصوّبت جنوب أفريقيا بوصلتها نحو الديمقراطية واصلت "الأفريقية البيضاء" تناول الآثار المدمرة للفوارق الطبقية في جنوب افريقيا ونسيبة الحرية في مجتمع يشكل فيه الفقراء الغالبية الساحقة، هي التي كتبت في إحدى قصصها "العيش في جنوب أفريقيا مثل التنزّه في مقبرة دُفن فيها الموتى أحياء".
في القصة كما في الرواية تقلل غورديمير من شأن الحبكة وتركز أكثر على البعدين النفسي والاجتماعي للشخصيات. كتابتها ذات أسلوب كلاسيكي لكونها غرفت طويلاً من الكلاسيكيات الإنجليزية والفرنسية خاصة توماس هاردي وجين أوستين وغي موباسون. وسردها مشوب بنفحة واقعية وينزع للمباشرة والحياد حد البرودة. لها هوس دائم بالتضاريس الأفريقية الملونة وبالطبيعة التي لا تكل من وصفها من نص لآخر. عن أسلوبها قالت في إحدى الحوارات: "الأسلوب كلمة فضفاضة، كل حكاية تتطلب تعاملاً خاصاً ومغايرة لا علاقة له بما يسمى بالأسلوب".
سقطة في القدس المحتلة
بعد تردد كبير قبلت نادين غورديمير الدعوة لحضور "المؤتمر الدولي للكُتاب" في القدس المحتلة على هامش الاحتفالات بـ"الذكرى الستين لتأسيس إسرائيل" عام 2008. وخلال الحوار الذي أجري معها أثناء المؤتمر بحضور مجموعة من الكتّاب الاسرائليين أكدت أنها قبلت الدعوة بصعوبة وبألم بسبب إلحاح عدد كبير من أصدقائها ومن ضمنهم ديسموند توتو على عدم الاستجابة للدعوة حتى لا تُتهم بالتواطؤ مع سياسة إسرائيل العنصرية وجرائمها بحق الشعب الفلسطيني. وقالت "لم آت هنا بدعوة من الحكومة الإسرائيلية بل بدعوة من مؤتمر للكُتاب. جئت هنا لأتحدّث إلى زملائي الكُتاب والنقاش حول ما يمكن فعله لحل المشاكل بين إسرائيل والفلسطينيين".
وحين سألها أحد الكتّاب الحاضرين عمّا سمّاه "تأثير ثقافتها اليهودية" على كتابتها كانت إجابتها واضحة ومخيبة لآمال بعض الذين يصرون على يهوديتها لكونها إبنة أب يهودي: "لم أتلق أي تربية يهودية، أبي وعائلته كانوا يهوداً إلا أنهم لم يكونوا متدينين". وألحت غورديمير في مداخلتها تلك على ضرورة التعلّم من درس جنوب أفريقيا وتجربة نظام الفصل العنصري بالحوار مع الآخر بدل إلغائه. وعندما سُئلت عن آفاق الحل في المنطقة احتذاء بالنموذج الجنوب افريقي قالت: "يبدو أن حل الدولة الواحدة ليس مطروحاً للنقاش في طاولة المفاوضات. يبدو لي أن فكرة الدولتين هو الحل الوحيد".
إلا أن تلك "الزيارة" - التي كشفت عن سطحية وعي الكاتبة العجوز بالقضية الفلسطينية - تبقى بلا شك من شوائب مسيرتها، ولعلها أكثر البقع تخييباً للظن في حياتها الطويلة.