لا يخفى على متتبع المشهد السينمائي المصري، الذي زاد عمره اليوم عن مئة عام، أن عدداً من أبرز تجاربه المؤسِّسة اتخذ شكل مصرنةٍ، أو محاولات مصرنة، لعدد من التجارب الأوروبية البارزة. من فانتازيا فيديريكو فيليني التي أثّرت في مسيرة مخرج مثل يوسف شاهين، إلى الواقعية التي كانت نصب عيني صلاح أبو سيف، مروراً بتجارب أخرى؛ والسينما المصرية لا تكفّ عن التأثر بتيارات ومدارس أوروبية أثبتت حضورها في تاريخ الفن السابع.
في هذا الوقت، لم يكن لهوليوود، في منتصف ستينيات القرن الماضي، حضور في التمثيلات السينمائية المصرية، باستثناء بعض الأعمال التاريخية. أما على مستوى السينما التجارية، فلم تشهد تلك الفترة سوى الأفلام الكوميدية الخفيفة، بأبطالها ذوي النجومية المسرحية قبل السينمائية. فيما كانت أفلام الحركة والتشويق الجديدة على الساحة العالمية غائبة عن هذا النوع.
يمكن الوقوف على تجربة المخرج نادر جلال (1941 – 2014)، الذي رحل قبل أيام، وزميله سمير سيف على أنها محطة تحوّل في مسار السينما المصرية عموماً، والتجارية منها على وجه التحديد، مع ذلك التأثر الهوليوديي الواضح على تجربة كل منهما، خصوصاً في أفلام الحركة أو "الآكشن".
بظهور تجارب كلا المخرجين، تغيّرت بورصة الأفلام ذات الإيرادات العالية، واختلفت ملامح الأفلام التجارية منذ نهاية السبعينيات؛ نفس المرحلة التي كانت السينما تغيّر فيه جلدها مع مخرجي الواقعية الجديدة، مثل محمد خان وخيري بشارة وعاطف الطيب، وسينما الفنتازيا التي قدمها رأفت الميهي.
استطاع جلال أن يخوض مغامرة خاصة مع عادل إمام، المتربع على عرش الإيرادات وقتها بأفلامه الكوميدية، فقدّما معاً أفلاماً تتميز بخليط من الكوميديا والإثارة، مثل "خمسة باب" و"واحدة بواحدة"، حتى خلع عن إمام ثوب الكوميديا تماماً في فيلم صار واحداً من كلاسيكيات السينما المصرية، هو "سلام يا صاحبي" (1985).
في هذا الشريط، استطاع جلال توظيف طموحه الهوليوودي بخلق فيلم إثارة مصري، عادل إمام وسعيد صالح من دون "إفّيه" واحد، بل بملامح تشي بالجدية طوال الوقت، وقدرة على مجابهة الخصوم مهما بلغت قوتهم. وقت نزول هذا الفيلم إلى صالات السينما في نهاية الثمانينيات، تحوّل أبطاله إلى نماذج، وتحول إمام من النجم الكوميدي الأول، إلى النجم الأول، بغضّ النظر عن النوع الذي يقدمه. وتحوّلت كلماته إلى تعبيرات يتم تداولها في الشارع: "حقّنا وناخده بدراعنا، مش برجالتنا".
لم يعتمد جلال في "سلام يا صاحبي" على نجومية أبطاله فحسب، بل كان مُدركاً لخلطة نجاح الفيلم الهوليوودي؛ إذ استطاع أن يصنع بطلاً بمواصفات مصرية خالصة: الغضب من الظلم "الاجتماعي" مُمثّلاً في شاب كادح بالكاد يعول نفسه، ومع الوقت، يتحسّن وضعه المادي بسبب مجموعة من المغامرات، إضافة إلى اللعب على مساحة أخلاقية في وفاء البطل لصديقه. أليست هذه هي صفات البطل الخارج كما تقدمها هوليوود؟ لكن جلال قدمها بنكهة مصرية خالصة، وإن كانت الأدوات والبنية الهوليوودية هي الغالبة على مسار الفيلم.
يأتي "سلام ياصاحبي" بعد عامين من تجربة عادل إمام الوحيدة مع المخرج محمد خان في فيلم "الحريف"، (1983)، الذي لم يلق نجاحاً كبيراً آنذاك، رغم سمات البطولة التي كرس لها خان في فيلمه. غير أن البطولة في شريط خان السينمائي هي أزمة وجودية مع الواقع القاسي الذي يعيش فيه البطل، وصراعاته النفسية في المقام الأول، مشفوعاً بشغفه بكرة القدم، وكان حله الوحيد للخروج من جحيم عالمه هو التخلي عن شغفه.
على خلاف ذلك، جاء بطل "سلام يا صاحبي" هو المؤثر على واقعه، الواقع ها هنا ليس هو حاكم الطريق طوال الشريط، بل رغبات البطل وطموحاته وقدرته على تطويعها لما يريد. دراما "سلام يا صاحبي" تتعلق بنهايتها كما في عنوان الفيلم الذي يشي بها. فيما "الحريف" هو دراما التخلي، أليس الواقع هو مجموعة من الاستغناءات والفقد المتكرر؟