كلّما جرى الحديث عن تفسير دخول العرب مرحلة التحديث (أو النهضة)، يظهر الاختلاف بين قراءتين؛ إحداها ترى أن الحملة الفرنسية التي قادها نابليون بونابرت على مصر (1798 -1801) كانت وراء هذا التغيير، فيما ترى الأخرى بأن البيئة العربية كانت قد بدأت تتبلور فيها شروط التحديث، فكان مجيء الحملة (ثم الاستعمار لاحقاً) أشبه بتحويل وجهة للتحديث الذاتي.
كانت هاتان الرؤيتان حاضرتين، أمس، في النقاش الذي دار حول كتاب "نقد أسطورة التنوير الكولونيالي في مصر"، لـ مجدي فارح، والذي نُظّم في مقر "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في تونس.
يتبنّى المؤلّف وجهة النظر التي تعيد عوامل التحديث إلى أسباب داخلية، فيما تبنّى مقدّم الكتاب، المؤرّخ إبراهيم جدلة الأطروحة المضادة. يقول فارح إن دافع كتابة عمله، الذي يندرج ضمن اختصاص "تاريخ الأفكار"، هو "التصدّي لأطروحة تجعل من الحملة الفرنسية تاريخاً مفصلياً في النهضة العربية"، أي أنه "ضد القول بأن التحديث جاء في سياق كولونيالي" في إطار رفض "منطق ما قبل وما بعد في كتابة التاريخ".
يدعو فارح إلى العودة إلى ما يسمّيه بـ "تاريخ محلّي" (الأوراق الإدارية، أرشيف المحاكم..) الذي يكشف، بحسبه، قدرة مجتمع على التحديث ذاتياً من عدمها. يقول "من خلال البحث في التاريخ المحلي، أردت إبراز أن التحديث قام على مقوّمات داخلية، فمصر لم تكن صحراء ثقافية قاحلة كما قيل"، مبيّناً بأنها كانت تعرف قبل الحملة طبقة تجارية لها مبادلات حتى مع فرنسا، كما شهدت نهضة حرفية منظّمة، ويشير بأن الوثائق تحفل بإشارات عن مكتبات خاصة، بعضها ظهرت في نزاعات في المحاكم بين الورثة ما يدلّ على قيمتها.
هنا ينبّه فارح إلى أنه حين نتحدّث عن بذور نهضة ينبغي أن نعيدها إلى مقاييس عصرها، إذ لا ينكر بأن النخب المصرية والعربية عموماً ظلّت عاجزة عن فهم الثورة الفرنسية، أي أن النهضة (الذاتية)، لو وقعت، لن تكون بمقاييس النهضة في الغرب. كما يوضّح أن المصريين لم يفهموا أن الحملة لها علاقة بالتوازنات الدولية، فهي مرتبطة بالتسابق مع الإنجليز على الطريق إلى الهند، وهو ما يضعه في إطار "جهل متبادل" بين الشرق والغرب.
يدعو المؤلّف إلى إعادة طرح الكثير من الأسئلة؛ مثلاً: عن أية صدمة نتحدّث؟ هل يمكن لحملة لم يزد مداها عن 38 شهراً أن تتحوّل إلى السبب الرئيسي للتحديث؟ وهنا يعتبر أن "الحملة الفرنسية كانت شمعة أحرقت جنين نهضة حقيقية"، مشيراً إلى أن حملة بونابرت تزامنت مع حملة برتغالية على الخليج العربي لا نجد من يعلّق عليها بالقول بأنها صنعت نهضة عربية.
يرى المؤلّف أنه ينبغي أن نرى الحملة في حد ذاتها، فهي تدخل ضمن أسطورة بونابرت الشخصية، ولها سياقاتها الفرنسية الخاصّة. يفنّد الكتاب مجموعة من المقولات مثل "ذهب المدفع وظلّت المطبعة"، حيث يشير إلى أن الفرنسيين لم يعلّموا مصرياً واحداً الطباعة، وإنما وصلتهم بعد ذلك من خلال الشاميين.
أما عن البعد العلمي للحملة، فيرى أنه كان ضرورياً من جهة لإبهار المصريين، وإخضاعهم، وأيضاً من أجل تبرير البعد "التنويري" وإخفاء الهدف الاقتصادي والجغراسياسي.
بشكل حاسم، يختم فارح كلمته "أعتقد أنه لا يمكن أن تأتي النهضة والحداثة في ركاب الغزاة"، ثم يقول أن "كل ما يصل إليه المؤرّخ ليس إلا نتائج نهائية مؤقتاً، أو نتائج مؤقتة نهائياً".
اقرأ أيضاً: كيف أسّس عام 1487 لفشل الثورة المصرية؟