04 نوفمبر 2024
ميكانيزم الجريمة في العصر الأصولي
في لحظات الانحطاط والعجز الحضاريين، وعلى الرغم من ولع المغلوب بتقليد الغالب، وفق تعبير ابن خلدون، تُطوّر الثقافة المغلوبة موقفاً أو مواقف دفاعية. ففي مختلف العصور والمجتمعات، رفض أناس حداثة عصرهم، وارتدّوا على الذات، إحياءً لتراثهم الاجتماعي والديني، وبناءً لمجتمعاتٍ بديلة، توفر الطمأنينة في مواجهة تسلط ثقافي مفروضة من الخارج.
القرامطة والحشاشون، ثيوقراطية جنيف التي أسّسها جان كالفن، والبيوريتانيون الذين عبروا البحر لإنشاء عالمهم الجديد... هي نظائر تاريخية للأصوليات المعاصرة. لكن، على الرغم من تلك الاستثناءات التاريخية، فإن الأصولية الدينية هي نتاج العالم الحديث، مهما بدت رجعيةً ولا حداثية، فعلى الرغم من أنها تنطلق من ماضٍ مثالي، تتطلع إلى مستقبل أكثر "طهراً"، وتستمر في إعادة إنتاج الدين داخل حدود الحداثة، وتوظّف كل ما توفره الحداثة من وسائل وتقنيات.
ما أن أعلن أصحاب أطروحة العلمنة في الغرب حلول القيم العلمانية مكان القيم الروحية، حتى ثار الشبّان في الستينيات على العقلانية العلمية المفرطة، بحثاً عن طرق بديلة للحقيقة. وبحلول السبعينات، كان الإحياء الديني الإسلامي، السني والشيعي، قد اتخذ شكلاً سياسياً صريحاً، وتحفزّت الأصوليات في كل مكان: اليمين المسيحي الجديد في أميركا، الأصولية الهندوسية والسيخية في الهند، والأصولية اليهودية في فلسطين...
وإن كان هناك أصوليات تتعايش مع التعددية، وتطبق مبادئها في مجتعاتها الخاصة، فإن الأصولية، بوصفها أيديولوجيا شمولية، تصرّ على إعادة الهيكلة الشاملة للمجتمع، وفق المبادئ الدينية، عبر إعادة قراءة للنصوص المقدّسة، تختزل ما تتيحه النصوص من قراءاتٍ محتملة، لتحوّلها إلى مشروعٍ ديني سياسي، يرفض الفصل بين المجالين العام والخاص. تستمد تلك القراءة الاختزالية مشروعيتها وأوّليتها من الشخصية الكارزمية للقائد، وهي حين تفصل بين "هم" و"نحن"، تصنع الآخر، وتولد إحساساً بهوية جمعية.
بحثاً عن مصادر جديدة للإنتاج والتسويق، وصلت الحداثة إلى الشرق مع جيش نابليون الحديث والمنظم، فكانت مقلقةً وصادمة، ففي مقابل القضاء على جيش تقليدي من المماليك، قتل فقط عشرة جنود فرنسيين. بدأ التنوير العربي في العام 1798 تحت ضغط المعركة الخارجية غير المتكافئة، ولم يقدم سوى ثقافة فكرية وسياسية نخبوية وضيقة. فُرضت العلمانية سياسياً، من دون سند أيديولوجي، وتحول تحديث الدولة، من دون تحديث المجتمع، إلى تغريبٍ للطبقات الدنيا، وهجانةٍ في شخصية الطبقات الوسطى. أما المؤسسة الدينية الرسمية، فلم تر في الحداثة أيّ تحدٍّ فكري، بل سلسلة من الإجراءات التي قوّضت سلطتها.
ولّدت الحداثة محفزّاتٍ باتجاه محاكاة الغرب، لكن الانبهار بالتكنولوجيا الغربية، مع العجز عن امتلاكها في سياق اجتماعي وسيكولوجي متماسك، والاكتفاء بنهايات العلوم، من دون بحث ومنهجية علميين، أنتج نمطاً استهلاكياً، ثقافياً واقتصادياً. ومنذ اتفاقية العام 1535، كانت دعوى حماية الأقليات مظلة الغرب، للتدخل الدائم في شؤون الشرق، فقدّم الغرب نفسه، هذه المرة، لا بوصفه مادياً وعلمانياً وحداثياً، بل بوصفه نمطاً اجتماعياً أخلاقياً ودينياً، ولمّا كانت المسألة الدينية تشغل اهتمام الشرق (الصراع الطائفي 1860 مثلاً)، أسهم الغرب في تكريس التناقض الحضاري صراعاً دينياً.
رأى بعض المصلحين أن فرض قيم الغرب على المسلمين سيحوّلهم إلى نسخ مشوهة، فلم يخل
إصلاحهم من توظيفاتٍ سياسيةٍ للدين، فأسست الوهابية دولتها انطلاقا من نجد، وانتهى المشروع السياسي لجمال الدين الأفغاني إلى الفشل، بعد فتواه التي حرّضت أحد تلامذته على اغتيال الشاه نصر الدين. وكان رشيد رضا أول الداعين إلى تأسيس دولة خلافةٍ إسلامية. وفي الثلاثينيات، بدأ التنظير لحركة فكرية جديدة، ترى في الدين مشروعاً سياسياً بالدرجة الأولى.
حاول حسن البنا مساعدة النص الإسلامي على استيعاب الروح الثقافية الغربية الحديثة، واتفق مع أبي الأعلى المودودي (الجماعة الإسلامية في باكستان)على أن أسلمة المجتمع تكون من "تحت" عبر الدعوة، والضغط على القيادات السياسية من "فوق"، لإدخال الشريعة في القانون، قبل اللجوء إلى الثورة، في حال اتّخذت الدولة صراحةً موقفاً معادياً للإسلام.
ولدت هزيمة 1948وعياً بالفجيعة، أسهم في صعود الأيديولوجيات العربية، خصوصاً، الأصولية والاشتراكية. نادى جمال عبد الناصر بالثورة الثقافية لتطبيق الاشتراكية العلمية، واقتنع الأصوليون أن العلمانيين حسموا أمرهم، للقضاء على الإسلام، فبدأت ثورتهم المضادة. وجدت أفكار سيد قطب الراديكالية تجسيدها العلمي في عملية "الفنية العسكرية" التي قادها صالح سِرّيَة، والتي ألهمت حركتين مصريتين رئيسيتين: "الجهاد" و"الجماعة الإسلامية". استُعيد الجهاد بوصفه فريضةً مغيّبةً بعد تحويل جوهره، ليصبح علاقةً بين المجاهد وعدوّه، بعد أن كان علاقة بين المجاهد وربه (جهاد النفس).
وبعد دوراتٍ من العنف والعنف المضاد، تلاقت المصالح عند تبديل ساحة المعركة، وإحداث تغييرٍ في أطرافها التقليديين. وبعد أن كان الخط العام لفتاوى الجهاد، يذهب إلى جعل الجهاد في المناطق فرض عينٍ على أهلها، دون باقي المسلمين، نظّر عبد الله عزام للجهاد العالمي، ليصبح الجهاد في كل المناطق فرض عينٍ على جميع المسلمين.
بعد 1989، أنتجت الساحة الأفغانية خطاب الأصولية الجهادية الجديدة، وأعيد إنتاج العناصر الرئيسية في هياكل التعبئة وآليات التجنيد الموظفة في الجهاد الأفغاني، منذ مكتب الخدمات 1984، في سياقاتٍ مناطقيةٍ وزمنيةٍ متتابعة، بقيادة مجاهدين عرب محترفين. برزت هذه الأصولية أيديولوجيةً منافسةً على الساحة الدولية، انقلبت على حلفاء الأمس. لكن الضربات الموجعة التي تلقاها تنظيم "القاعدة" عقب 11 سبتمبر/ أيلول 2001، لم تقصم ظهر الأصولية الجهادية التي جدّدت عقيدتها وخطابها، وحدّثت وسائلها وأساليبها وأهدافها. وبدت "داعش" وشقيقاتها، في الأسرة الأصولية الجهادية، نسخاً أخطر وأشدّ عنفاً من "القاعدة".
برزت الخصوصيات الثقافية موقفاً دفاعياً، مع تقدم العولمة وتعاظم التفاوت الحضاري، وتقوّت الأصولية شكلاً فرعياً للهوية القومية الإثنية، نتيجة فشل القوميات المدنية في بناء هوياتٍ سياسيةٍ مطمئنة ومستقرة. في الغرب، عجزت الليبرالية عن الحفاظ على قاعدةٍ اجتماعيةٍ أخلاقيةٍ متماسكة، مع استمرار التناقض في الدولة الليبرالية، بين ديمقراطيتها الداخلية ومسؤولياتها الإمبريالية والـ"نيو إمبريالية"، واستمرار النفاق السياسي الغربي إزاء دعم التحولات الديمقراطية، وحل عادل للقضية الفلسطينية.
شرقاً، لم يجلب الاستقلال النقلة اللازمة إلى الحداثة، بسبب عدم كفاءة النخب العربية، وفساد النظم الحاكمة وتآكل شرعيتها، بعد هزيمتها في معركتي التحرّر والتحرير، وتحوّل أجهزة الدولة أدواتٍ للجباية لا للرعاية، في ظل انفتاحٍ على اقتصاد السوق، وتداخل الهمّ الشخصي بالهمّ العام. استمرت النظم الحاكمة في الرهان على القوة، في مواجهة معارضةٍ لم تعد تقتصر على جماعاتٍ ثانوية. أما المؤسسة الدينية الرسمية فكانت متواطئةً سياسياً، أو مشغولةً بإيمان تأملي، يذكّر باليوم الآخر، بعيداً عن التلوث بهموم الواقع. استمرت جاذبية الحركات الأصولية التي طالما قدّمت "حلولاً" عملية على الصعيد الاجتماعي الدعوي، وصولاً إلى تلقفها حلم الخلاص الفردي والجماعي لمحرومين كثيرين.
تؤسس الأيديولوجيات الأصولية المتطرّفة لكهنوت ديني سياسي. من جانبٍ، يتوسط بين الإنسان والله، فيخلق يقيناً تسلطياً باتجاهين: الداخل والخارج. من جانب آخر، يعيق نمو ذاتٍ فرديةٍ مختارة سياسياً ومسؤولة أخلاقيا. يفسر هذا الكهنوت المنحى العنيف والدموي الذي لا يمكن اختزاله على أنه مجرد أساليب إعلامية، فجريمة الصورة في ذاتها تمثل إدانةً إضافية لهؤلاء. ومن هنا، يمكن فهم تلك الجرائم التي ينفذها مجموعة أشخاص، راشدين بما يكفي في أصوليتهم الكهنوتية، مأزومين وقاصرين نفسياً واجتماعياً، كجريمتي (مثالاً لا حصراً) حرق الطفل محمد أبو خضير حياً في القدس على يد أصوليين يهود، وذبح الطفل عبد الله عيسى في حلب، على يد أصوليين إسلاميين. ليست هذه الأعمال، مهما قيل في محاولة تبريرها، فرديةً، طالما تصدر عن تلك الروح القطيعية وذلك التسلط الجماعي، وعن ذلك الكهنوت الذي بات أساسياً في ميكانيزم "الجريمة الأصولية".
في ظل عدم القدرة على التوفيق بين الاختلافات الحضارية، يتحوّل الصراع الحضاري إلى صراعٍ بين أصولياتٍ متنافسةٍ ضمن الحضارة الواحدة، وأخرى متنافسةٍ تنتمي إلى حضاراتٍ متعارضة. الصراع بين هذه الأصوليات يكسبها مزيداً من الجاذبية، وسبباً إضافياً في وجودها واستمراريتها، حين تغذّي إحداها الأخرى، في أجواء من الكره والعداء لـ"الآخر".
هل نحن مقبلون على تكريس العصر الأصولي؟ إنه لأمر مرعبٌ حقاً، فالقضية لم تعد فقط مطالبةً مشروعةً بالعدالة والحقوق، هذه المطالبة التي يجري اختطافها أصوليا، هنا وهناك، القضية هي أيضاً الدفاع عن إنسانيتنا، نحن الضحايا.
القرامطة والحشاشون، ثيوقراطية جنيف التي أسّسها جان كالفن، والبيوريتانيون الذين عبروا البحر لإنشاء عالمهم الجديد... هي نظائر تاريخية للأصوليات المعاصرة. لكن، على الرغم من تلك الاستثناءات التاريخية، فإن الأصولية الدينية هي نتاج العالم الحديث، مهما بدت رجعيةً ولا حداثية، فعلى الرغم من أنها تنطلق من ماضٍ مثالي، تتطلع إلى مستقبل أكثر "طهراً"، وتستمر في إعادة إنتاج الدين داخل حدود الحداثة، وتوظّف كل ما توفره الحداثة من وسائل وتقنيات.
ما أن أعلن أصحاب أطروحة العلمنة في الغرب حلول القيم العلمانية مكان القيم الروحية، حتى ثار الشبّان في الستينيات على العقلانية العلمية المفرطة، بحثاً عن طرق بديلة للحقيقة. وبحلول السبعينات، كان الإحياء الديني الإسلامي، السني والشيعي، قد اتخذ شكلاً سياسياً صريحاً، وتحفزّت الأصوليات في كل مكان: اليمين المسيحي الجديد في أميركا، الأصولية الهندوسية والسيخية في الهند، والأصولية اليهودية في فلسطين...
وإن كان هناك أصوليات تتعايش مع التعددية، وتطبق مبادئها في مجتعاتها الخاصة، فإن الأصولية، بوصفها أيديولوجيا شمولية، تصرّ على إعادة الهيكلة الشاملة للمجتمع، وفق المبادئ الدينية، عبر إعادة قراءة للنصوص المقدّسة، تختزل ما تتيحه النصوص من قراءاتٍ محتملة، لتحوّلها إلى مشروعٍ ديني سياسي، يرفض الفصل بين المجالين العام والخاص. تستمد تلك القراءة الاختزالية مشروعيتها وأوّليتها من الشخصية الكارزمية للقائد، وهي حين تفصل بين "هم" و"نحن"، تصنع الآخر، وتولد إحساساً بهوية جمعية.
بحثاً عن مصادر جديدة للإنتاج والتسويق، وصلت الحداثة إلى الشرق مع جيش نابليون الحديث والمنظم، فكانت مقلقةً وصادمة، ففي مقابل القضاء على جيش تقليدي من المماليك، قتل فقط عشرة جنود فرنسيين. بدأ التنوير العربي في العام 1798 تحت ضغط المعركة الخارجية غير المتكافئة، ولم يقدم سوى ثقافة فكرية وسياسية نخبوية وضيقة. فُرضت العلمانية سياسياً، من دون سند أيديولوجي، وتحول تحديث الدولة، من دون تحديث المجتمع، إلى تغريبٍ للطبقات الدنيا، وهجانةٍ في شخصية الطبقات الوسطى. أما المؤسسة الدينية الرسمية، فلم تر في الحداثة أيّ تحدٍّ فكري، بل سلسلة من الإجراءات التي قوّضت سلطتها.
ولّدت الحداثة محفزّاتٍ باتجاه محاكاة الغرب، لكن الانبهار بالتكنولوجيا الغربية، مع العجز عن امتلاكها في سياق اجتماعي وسيكولوجي متماسك، والاكتفاء بنهايات العلوم، من دون بحث ومنهجية علميين، أنتج نمطاً استهلاكياً، ثقافياً واقتصادياً. ومنذ اتفاقية العام 1535، كانت دعوى حماية الأقليات مظلة الغرب، للتدخل الدائم في شؤون الشرق، فقدّم الغرب نفسه، هذه المرة، لا بوصفه مادياً وعلمانياً وحداثياً، بل بوصفه نمطاً اجتماعياً أخلاقياً ودينياً، ولمّا كانت المسألة الدينية تشغل اهتمام الشرق (الصراع الطائفي 1860 مثلاً)، أسهم الغرب في تكريس التناقض الحضاري صراعاً دينياً.
رأى بعض المصلحين أن فرض قيم الغرب على المسلمين سيحوّلهم إلى نسخ مشوهة، فلم يخل
حاول حسن البنا مساعدة النص الإسلامي على استيعاب الروح الثقافية الغربية الحديثة، واتفق مع أبي الأعلى المودودي (الجماعة الإسلامية في باكستان)على أن أسلمة المجتمع تكون من "تحت" عبر الدعوة، والضغط على القيادات السياسية من "فوق"، لإدخال الشريعة في القانون، قبل اللجوء إلى الثورة، في حال اتّخذت الدولة صراحةً موقفاً معادياً للإسلام.
ولدت هزيمة 1948وعياً بالفجيعة، أسهم في صعود الأيديولوجيات العربية، خصوصاً، الأصولية والاشتراكية. نادى جمال عبد الناصر بالثورة الثقافية لتطبيق الاشتراكية العلمية، واقتنع الأصوليون أن العلمانيين حسموا أمرهم، للقضاء على الإسلام، فبدأت ثورتهم المضادة. وجدت أفكار سيد قطب الراديكالية تجسيدها العلمي في عملية "الفنية العسكرية" التي قادها صالح سِرّيَة، والتي ألهمت حركتين مصريتين رئيسيتين: "الجهاد" و"الجماعة الإسلامية". استُعيد الجهاد بوصفه فريضةً مغيّبةً بعد تحويل جوهره، ليصبح علاقةً بين المجاهد وعدوّه، بعد أن كان علاقة بين المجاهد وربه (جهاد النفس).
وبعد دوراتٍ من العنف والعنف المضاد، تلاقت المصالح عند تبديل ساحة المعركة، وإحداث تغييرٍ في أطرافها التقليديين. وبعد أن كان الخط العام لفتاوى الجهاد، يذهب إلى جعل الجهاد في المناطق فرض عينٍ على أهلها، دون باقي المسلمين، نظّر عبد الله عزام للجهاد العالمي، ليصبح الجهاد في كل المناطق فرض عينٍ على جميع المسلمين.
بعد 1989، أنتجت الساحة الأفغانية خطاب الأصولية الجهادية الجديدة، وأعيد إنتاج العناصر الرئيسية في هياكل التعبئة وآليات التجنيد الموظفة في الجهاد الأفغاني، منذ مكتب الخدمات 1984، في سياقاتٍ مناطقيةٍ وزمنيةٍ متتابعة، بقيادة مجاهدين عرب محترفين. برزت هذه الأصولية أيديولوجيةً منافسةً على الساحة الدولية، انقلبت على حلفاء الأمس. لكن الضربات الموجعة التي تلقاها تنظيم "القاعدة" عقب 11 سبتمبر/ أيلول 2001، لم تقصم ظهر الأصولية الجهادية التي جدّدت عقيدتها وخطابها، وحدّثت وسائلها وأساليبها وأهدافها. وبدت "داعش" وشقيقاتها، في الأسرة الأصولية الجهادية، نسخاً أخطر وأشدّ عنفاً من "القاعدة".
برزت الخصوصيات الثقافية موقفاً دفاعياً، مع تقدم العولمة وتعاظم التفاوت الحضاري، وتقوّت الأصولية شكلاً فرعياً للهوية القومية الإثنية، نتيجة فشل القوميات المدنية في بناء هوياتٍ سياسيةٍ مطمئنة ومستقرة. في الغرب، عجزت الليبرالية عن الحفاظ على قاعدةٍ اجتماعيةٍ أخلاقيةٍ متماسكة، مع استمرار التناقض في الدولة الليبرالية، بين ديمقراطيتها الداخلية ومسؤولياتها الإمبريالية والـ"نيو إمبريالية"، واستمرار النفاق السياسي الغربي إزاء دعم التحولات الديمقراطية، وحل عادل للقضية الفلسطينية.
شرقاً، لم يجلب الاستقلال النقلة اللازمة إلى الحداثة، بسبب عدم كفاءة النخب العربية، وفساد النظم الحاكمة وتآكل شرعيتها، بعد هزيمتها في معركتي التحرّر والتحرير، وتحوّل أجهزة الدولة أدواتٍ للجباية لا للرعاية، في ظل انفتاحٍ على اقتصاد السوق، وتداخل الهمّ الشخصي بالهمّ العام. استمرت النظم الحاكمة في الرهان على القوة، في مواجهة معارضةٍ لم تعد تقتصر على جماعاتٍ ثانوية. أما المؤسسة الدينية الرسمية فكانت متواطئةً سياسياً، أو مشغولةً بإيمان تأملي، يذكّر باليوم الآخر، بعيداً عن التلوث بهموم الواقع. استمرت جاذبية الحركات الأصولية التي طالما قدّمت "حلولاً" عملية على الصعيد الاجتماعي الدعوي، وصولاً إلى تلقفها حلم الخلاص الفردي والجماعي لمحرومين كثيرين.
تؤسس الأيديولوجيات الأصولية المتطرّفة لكهنوت ديني سياسي. من جانبٍ، يتوسط بين الإنسان والله، فيخلق يقيناً تسلطياً باتجاهين: الداخل والخارج. من جانب آخر، يعيق نمو ذاتٍ فرديةٍ مختارة سياسياً ومسؤولة أخلاقيا. يفسر هذا الكهنوت المنحى العنيف والدموي الذي لا يمكن اختزاله على أنه مجرد أساليب إعلامية، فجريمة الصورة في ذاتها تمثل إدانةً إضافية لهؤلاء. ومن هنا، يمكن فهم تلك الجرائم التي ينفذها مجموعة أشخاص، راشدين بما يكفي في أصوليتهم الكهنوتية، مأزومين وقاصرين نفسياً واجتماعياً، كجريمتي (مثالاً لا حصراً) حرق الطفل محمد أبو خضير حياً في القدس على يد أصوليين يهود، وذبح الطفل عبد الله عيسى في حلب، على يد أصوليين إسلاميين. ليست هذه الأعمال، مهما قيل في محاولة تبريرها، فرديةً، طالما تصدر عن تلك الروح القطيعية وذلك التسلط الجماعي، وعن ذلك الكهنوت الذي بات أساسياً في ميكانيزم "الجريمة الأصولية".
في ظل عدم القدرة على التوفيق بين الاختلافات الحضارية، يتحوّل الصراع الحضاري إلى صراعٍ بين أصولياتٍ متنافسةٍ ضمن الحضارة الواحدة، وأخرى متنافسةٍ تنتمي إلى حضاراتٍ متعارضة. الصراع بين هذه الأصوليات يكسبها مزيداً من الجاذبية، وسبباً إضافياً في وجودها واستمراريتها، حين تغذّي إحداها الأخرى، في أجواء من الكره والعداء لـ"الآخر".
هل نحن مقبلون على تكريس العصر الأصولي؟ إنه لأمر مرعبٌ حقاً، فالقضية لم تعد فقط مطالبةً مشروعةً بالعدالة والحقوق، هذه المطالبة التي يجري اختطافها أصوليا، هنا وهناك، القضية هي أيضاً الدفاع عن إنسانيتنا، نحن الضحايا.