يفتتح أونفري كتابه بالكلام عن الفرق بين دون كيشوت الأصلي في رواية ثرفانتس ومصطلح "الدونكيشوتية" الذي، تبعاً لاستخدامه الرائج في الفرنسية ولغات أوروبية أخرى، حوَّل شخصية "عدوانية وخبيثة، مصابة بجنون الشك والهوس الأحادي، ومنفصلة عن الواقع وناكرة له، إلى بطل إيجابي (...) هو على نقيض الانتهازية والكلبية، ويتمسّك بالمثال في عالم يدعو فيه ازدهار الرذيلة وبؤس الفضيلة إلى النكران والمساومة على الأخلاق".
بوسع القارئ هنا أن يتوقع كتاباً يعيد قراءة الرواية في سياقها التاريخي والجغرافي بمعزل عن الإسقاطات اللاحقة التي أعطتها بعداً كونياً. لكن أمله سيخيب حين يختتم أونفري الجزء الأول بالقول أن ما يغفله تعريف الدونكيشوتية في القواميس الفرنسية هو "الشغف بالأفكار على حساب الواقع، ديانة المثال تلك التي لا تعير الواقع أي اهتمام (...). يتجلى أن دون كيشوت هو افلاطوني نموذجي يرى أن الفكرة التي تقول العالم هي حقيقية أكثر من العالم الذي تقوله. (...) وهو مرض غالباً ما يصيب المفكر الغربي المتحدر من سلالة طاليس".
هذه السطور تلخص مقاربة أونفري الذي يقرأ رواية ثرفانتس، من منظورٍ هو خليط هجين من النيتشوية المُبسَّطة والمادية والشعبوية، على أنها أولاً رواية ضد المسيحية، ومن ثم رواية ضد كل الأديان والإيديولوجيات والمنظومات الفكرية، من الافلاطونية إلى الفرويدية مروراً بالفاشية والشيوعية والرأسمالية وغيرها. وبالنسبة إليه، الرواية تنتصر لخادم دون كيشوت، سانشو، الذي يمثل رجل الشارع البراغماتي والحكمة الشعبية المتوارثة التي تنقل العالم كما هو من دون توسط الكتب.
ولتدعيم مقاربته، يبدأ أونفري قراءته بالمقطع الوحيد الذي تبدو فيه الإشارة إلى الكنيسة واضحة، أي ذلك الذي يعزم فيه الخوري والحلاق على حرق كتب الفروسية الشيطانية التي ذهبت بعقل دون كيشوت، ويلتحق بهم لاحقاً كاهن كاتدرائية. أثناء العملية، يعبِّر الخوري والكاهن عن إعجابهم وشغفهم بتلك الكتب المدانة التي سبق أن قرأوها كلها. ويرى أونفري أن ثرفانتس يشير هنا من باب الغمز إلى أن جميع رجال محاكم التفتيش الكنسية قرأوا الكتب التي يحظرونها ويستسيغونها.
لاحقاً يقترح أونفري أن تكون رواية ثرفانتس تحاكي بصورة ساخرة "حكاية الحاج"، سيرة مؤسس عصبة يسوع إينياس دو لويولا، كما يستدعي سِيَر نماذج مسيحية أخرى ليقارنها مع أحداث الرواية وشخصياتها. المفارقة أن قيم الفرسان الجوالين، التي يسخر منها ثرفانتس ويعتبر أونفري أنها تمثل المسيحية، تكاد تكون هي عينها قيم الفرسان الشعراء الجاهليين الذين يعتقد طه الحسين أنهم اخترِعوا في العصر الأموي، وإن مع تفاوت ملحوظ في معايير العفة.
وفي ما يخص "دولسيني"، حبيبة دون كيشوت الوهمية، يرى أونفري أنها تمثل النموذج المسيحي الطهراني للمرأة المتجسد في صورة القديسة أو مريم العذراء؛ والذي، برأي أونفري، لا وجود له إلا في عالم المُثل والأفكار المجردة. وفي هذا السياق، يقارنها مع شخصية نسائية تحررية من لحم ودم تظهر في الرواية ويعتبر أنها تمثل النموذج النقيض: كريسوستوم (Chrysostome) الأبية والرافضة للزواج التي ردّت كل عشاقها على أعقابهم وانسحبت إلى الغابة لأنها ترفض الخضوع لأي رجل.
وفي معالجته لشخصية دون كيشوت، يشدد أونفري على صفة الإنكار التي يعدّها عصب الشخصية وسمتها الجامعة، والمقصود هنا انكار الواقع. فبرأيه، جنون دون كيشوت، الذي يتشاركه مع كل أصحاب الإيديولوجيات، يكمن في أنه ينكر الواقع ويرفض رؤيته كما هو، بل يراه كما يزينه له هواه اليوتوبي، ويعتبر أن فكرته عن الواقع هي معيار الواقع وليس العكس. وحين يخالف الواقع هذه الفكرة يستنتج أن الواقع خاطئ أو تم تزييفه على يد مشعوذ.
ويستغرب أونفري أن، بين كل الدراسات التي أجريت عن رواية ثرفانتس، لم تخصص دراسة واحدة لظاهرة الإنكار التي تركِّز عليها مقاربته. ولا يفهم القارئ هذا الادعاء حين يفكر بعدد الدراسات السيكولوجية التي تناولت الرواية ولا بد أنها ركزت على هذا الجانب من الشخصية، لكن أونفري يرفض التقيّد بالمفهوم السيكولوجي للإنكار ويعطيه تعريفاً عاماً خاصاً به: "كبت واقع الذات حين يُقارن بفكرتنا عن ذاتنا (...)، حين يظهر بوضوح ساطع أن ما نحن عليه هو على نقيض ما نعتقده عن أنفسنا".
من جهة أخرى، يعتبر أونفري أن ثرفانتس قدَّم شرحه الخاص لظاهرة الإنكار من خلال أحد المقاطع التي تظهر في الوهلة الأولى خارجة عن سياق الرواية. المقطع المعني يروي قصة زوج يرغب في امتحان إخلاص زوجته ويُكرِه صديقه على إغوائها. وعلى اثر امتحانات الزوج المتكررة، يقع الصديق والزوجة فعلاً في كلّ في غرام الآخر ويفرّان معاً، فيموت الزوج كمداً. ويرى أونفري أن ثرفانتس يقول لنا هنا أن الكثير من الحقيقة يقتل، وأن الناس يلجأون إلى الإنكار لعدم مواجهة الحقيقة "التي هي غالباً قاسية، ما دام البشر هم كذلك على الدوام".