ميداردو أنخيل سيلفا.. حياة قصيرة وكثيفة

05 نوفمبر 2018
(الشاعر في عمل لـ بيدرو خوان بِنالكازار فاسكيز)
+ الخط -

ليس من السهل قبول اسم شعري كمؤسّس للحداثة في الإكوادور في هذه السن الممتدّة من بداية دخول ميداردو أنخيل سيلفا (1898 - 1919) عالَمَ الشعر في التاسعة من عمره، ثم تأسيسه صحيفةً متخصّصة في الشعر الساخر تحمل اسم "البعوضة" وهو في الحادية عشرة، إلى أن أصبح اسماً بارزاً في الثامنة عشرة.

غير أن الموهبة التي لمعت بسرعةٍ في مدينة غواياكيل، كبرى المدن الإكوادورية، سرعان ما باغتت المشهد الثقافي في بلاده. هذه السرعة هي بحساب ساعة الزمن، لا بحساب الألم الذي أثقل جسد ميداردو، وجعل من بلوغ الحادية والعشرين بلوغاً لزمن آخر، لم يعد بالإمكان مواصلته.

كان أحد، بل أبرز، الشعراء الأربعة الذين تأثّروا على نحو خاص بحركة الموديرنيزمو عند الشاعر النيكاراغوي روبن داريو (1867 - 1916)، كما تأثّروا بالشعر الرمزي الفرنسي. هؤلاء الأربعة هم من سيُطلَق عليهم اسم "الجيل الذبيح" (إيرنيستو نوبوا إي كامانيو، وآتورو بورخا، وأمبرتو فييرّو إضافةً إلى سيلفا). انتحروا جميعهم في عمر مبكّر، حيث كان أطولَهم عمراً هو نوبوا الذي أنهى حياته في الثامنة والثلاثين.

ويُروى أن أوّل ما قالته غابرييلا ميسترال (1889 - 1957) عند وصولها إلى غواياكيل: "أرشدوني إلى الشاعر الطفل". كانت الشاعرة التشيلية، الفائزة بجائزة نوبل للآداب عام 1945، تقصد سيلفا، الشاعر النابغ، وقد عرفته من خلال ما نُشر من أعماله في بداية العشرينيات بفضل تدخُّل الشاعرتين ألفونسينا ستورني وخوانا إيبوربورو.

تلقّى سيلفا تعليمه في مدرستين عريقتين خرّجتا ألمع الشخصيات الفكرية والوطنية من أبناء غواياكيل. غير أنه أُجبر على ترك تعليمه، لعدم تمكّنه من تسديد الأقساط على إثر انتحار المرابي الذي أودعت لديه والدته كامل مدّخراتها، وذلك بعد إفلاسه.

تعلَّم الفرنسية في "مدرسة روكافورتيه"، والإيطالية واللاتينية مع زملائه الرهبان في "كنيسة لاسوليداد" التي كان يتردّد عليها للعزف على الأرغن، ما مكّنه من قراءة شعراء الحركة الرمزية الفرنسيّين والإيطاليّين والإنكليز بلغاتهم الأصلية.

كان يسمي قصائده poemitas أي "قصائد صغيرة":
رحل المساء بعيداً ومعه شيء منّي
وجعي من الحياة هو وجع الحب
في الشوارع العتيقة
تجتاحني رغبة هائلة في البكاء

في عام 1916، ظهرت في غواياكيل المجلّة الأدبية "النهضة" التي أسّسها خوسيه ماريّا إيغاس وخوسيه أنتونيو فالكوني بيّاغوميس. دُعي سيلفا، وكان عمره 18 عاماً، هذه المرّة، لا للمساهمة في المجلّة، بل ليكون رئيس تحريرها. وبدءاً من صفحاتها الأولى، أخذ ينشر مقتطفات سير ذاتية، وقصائد لشعراء مكرّسين من الإكوادور وخارجها، وكتب نقداً في الموسيقى والفن، واحتفظ بمراسلات حيّة مع شعراء بارزين كان يضيء على كتبهم، ويتناولها بالنقد في زاوية "كتب جديدة".

في عام 1918، قرّر نشر مجموعة من أهم قصائده التي كتبها بين عامَي 1914 و1917 في كتابه الأوّل "شجرة الخير والشر"، وقد طبعت منه مائة نسخة، بكلفة مائة سوكري، و"هو ما يعادل كلفة بدلة راقية، مصنوعة من أجود الكشمير الإنكليزي وعلى يد أمهر الخيّاطين في ذلك الوقت". هذه المقارنة ذكرها سيلفا نفسه، حين شكا لأحد أصدقائه قلّة النسخ المباعة من كتبه. وفي واحدة من نوبات مزاجه المعتادة، أخذ النُسخ المتبقّية لديه وألقاها في النهر، كما يروي الشاعر آبيل روميرو كاستيو.

في تلك الأثناء، دعت صحيفة "التلغراف"، الأكثر انتشاراً على المستوى الوطني، سيلفا كي ينشر فيها روايته "ماريّا خيسوس"، إضافة إلى قصائد غنائية. حقَّقَ له ذلك الاعتراف به والإقبال الجماهيري الكبير على أعماله، ليصبح كاتب العمود الأوّل في الصحيفة، بعموده المعنون "على نحو عابر" الذي كان يوقّعه باسم مستعار.

كان وجهه ينمّ عن كآبة، كأنه يغوص في عالم آخر، عالم ألم وصمت دائمَين. وأضجرته الحياة التي تلاحقه بالدعوات لحضور أهمّ المناسبات والصداقات مع الكثير من سيّدات المجتمع، إذ إن ذلك لم يجعله سعيداً.

وقع في غرام روسا أمادا وعمرها أربع عشرة سنة. بثّت الفتاة فيه روحاً شعرية، ثم ترفّعت عليه ولم تبادله عشقه. وقارن بعضُ النقاد علاقتهما بعلاقة الكاتب الأميركي إدغار ألان بو مع أنابيل لي. ثمّة ما يؤكّد دوام علاقة الشاعر بحبيبته عاماً. قرّرت بعد ذلك إنهاء العلاقة، ربما بسبب معارضة والدتها، أو لأنها عشقت شاعراً آخر هو لاورو دابيلا، الذي ستتزوّج منه لاحقاً.

تحدّى سيلفا فكرة إنهاء العلاقة ومارس ضغوطاً على روسا أمادا، لكي تحسم قرارها النهائي. ويظهر ذلك بوضوح من خلال رسالته إليها والمؤرّخة في الثامن من يونيو/حزيران، أي قبل رحيله بيومَين. يقول في الرسالة: "كلمة واحدة منك ستُسعدني وتجعلني عبداً لك إلى الأبد (..) فحياتي هي تحت تصرّفي وها أنا أقدّمها لك، إن كان لها أي قيمة مقابل وفائك بوعدك القديم، وإلّا فيمكنك وضع محبوبك ميداردو في عداد الفانين".

تقول سيامورا إسبانيا، أستاذة كرسي في النقد والأدب في "جامعة غواياكيل"، إن الروايات حول موته عديدة، لكن ما يرجّح انتحاره هو حضور الموت في قصائده.. الموت الذي يصفه بالمحرّر من رعب الحياة. وتضيف: "ترك لنا سيلفا هذا الإرث الجميل من الشعر محكَم النظم، الغنيّ بإيقاعه وصوره، لكنّه أيضاً ترك لنا موته مشهدَ حداد شعرياً كأنه من عالم غويا".

رحل ميداردو سيلفا في العاشر من يونيو/ حزيران 1919 في منزل روسا أمادا. وبحسب الرواية الأشهر، فقد حسمت حبيبته أمرها، فأخرج مسدّسَ "ريفولفر سميث ويسون" أمام عينيها وأطلق رصاصة في صدغه، ولم يُدفَن على الطريقة المسيحية، لأن السلطة الدينية اعتبرته منتحراً.

وتحوّلت قصيدة "الروح في الشفتين" التي كتبها قبل موته وأهداها لمحبوبته، إلى أغنية شعبية رائجة لحّنها فرانسيسكو باريداس إيرّيرا، وغنّاها ببراعة خوليو خاراميّو.

دلالات
المساهمون