طالما جلسوا إلى جانب بوابات بيوتهم، على كراسٍ خشبية واطئة، بلا مساند للذراعين وللظهر، مقاعدها من خيوط قش مجدول، وأسندوا ظهورهم على جدرانها.
أدرجوا بأصابعهم الغليظة لفائف "التتن"، وهم يحدقون في جدران قريبة، تبدو أشد كتامة من ذكرياتهم البازلتية، تاركين أوراق الشاي في إبريقها الحديد، تكمل تحللها في الماء المغلي المحلى بالسكر.
يهزون، من حين لآخر، باطن أكفهم المفتوحة فوق شتلات الحبق المركونة قربهم، التي تتصاعد أعذاقها القزمة، من داخل أوعية معدنية رقيقة، ملأتها يوماً زيوت معدنية أو أوعية أصغر حجماً لسمون نباتية، مُلئت بالتراب. يرفعونها بعدها إلى أنوفهم متنشقين عطرها الحارق.
تتعالى أصوات زوجاتهم من جوف المطابخ وهن منكبات فوق الباذنجان وشرائح اللفت المتبلة بالملح والكزبرة، تقطعن البصل وتمتحن جدارته برميه في الزيت الساخن، بينما تنقع بناتهن الواقفات قربهن فسائل الهندباء بأوعية توتياء فتتها الصدأ، وقد ملأنها بالماء بغية إخراج المرارة من جوف أوراقها.
اقــرأ أيضاً
- ألم يختمر الشاي؟ نحن اختمرنا.
يسكبونه في كؤوس بلور شفافة، برفع الإبريق إلى الأعلى ليفصح عن فقاعات شفافة على سطح الكؤوس الغامق.
عاشوا لسنوات ببهجة خلاصية بعدما تحرروا ذاتياً، أو حررهم الزمن المتعاقب من أسر الإحساس بالذنوب. ربما لأن مفهوم الذنب قد تغير مع مرور الزمن كما هو حال التغيرات الأخرى في أنماط اللباس والأطعمة والموسيقى.
- أتنتظرون أحداً؟
- ننتظر إقبال طفولتنا، تسير الهوينى بمحاذاة عربة بائع المثلجات.
****
وكانت تقف أمام النافذة المطلة على خلاء داكن، منتعلة "بابوج" منزلياً بكعب عال. تلبس فوق جسدها العاري "كوملبيزون" بلون العسل. تعقد حول عنقها منديلاً من الموسلين المعرق بمويجات ألوان بساتين الربيع. تبسط ذراعيها على مداهما الضيق كأنها تتهيأ للدعاء.
تطلق صوتاً من ناي ذكرياتها مسترجعة سهوب طفولتها، حركة اليرقات فوق اخضرار ورق توت أشجارها: "حوّل يا غنّام". غير مدركة أنه ما من غنّام في هذه المدينة ولا خراف تتبعه. غنت لتشيّع وحشتها ووحدتها قبل إطلاق فراشاتها الهزيلة إلى أعماق الغسق المسموم.
تخرج من بوابة عمارتها بخطوات وجيزة، كأنها إيقاعات لكلام مقفى. لم تتقصد وهي تقرّع الأرض بكعب حذائها الصلب توبيخ بلاط الرصيف على تحدّبه. كما لم تسع لتقويم اعوجاجه برأس النعل المدبب. تتجه كما يتجه كل المشاة إلى حيث تلتقي الشوارع ببعضها.
اقــرأ أيضاً
لكنها كانت تومئ إلى بلاغة ساقين من رخام، تستوجبان التبجيل، بتسوية الأرصفة وتنظيف الشوارع والتنحي جانباً لإتمام عبورها الرّيان برشق المكان بقبضات ملح من أجل امتصاص الرطوبة التي بللت تويجات الشوارع بندى العاطفة.
كأنه إشفاق متأخر، على قلوب منقوعة بالخل والملح من دهور.
لا تتركوا هذه الفتاة الوحيدة تضيع.
كأن تتناسوا اسمها في زحمة الأسماء العابرة، وقوة البهجة المحمولة كغيمة عابرة فوق أكنافٍ تيتمكم المخذول، بذكريات أهالي مضوا بذرائع السفر، ولم تعدهم نداءات أولادهم المتضرعة المتسربة من كوات النوافذ الضيقة.
منحتكم القدرة على طرق بلاط الأرصفة بالأحذية ذات التروس الحديدية، والتبرك بالعطور التي أخفاها كرم النباتات المجيدة في شعرها السبط.
حفزتكم على رفع أعناقكم إلى الأعلى لتتيقنوا من ارتفاع الشرفات، وقابلية الأباجورات للطي كما زوايا أوراق الكتب.
اقــرأ أيضاً
وتبقى النفوس أمارة بالحرية التي بقيت حجراً في قاع نهر عصيًا على الصقل واللمس. عبرتها مياه الممالك والسلطنات والمتشبهين بهما، وبقيت نداء متصاعداً لشعوب يتيمة أذلها الوقوف خلف بعضها في طوابير لأجل حفنة برغل سلق بعجالة على نار دواليب الشاحنات، وخوف ثقيل كقوالب الزنك، حوّل قلوبها عنوة إلى طبول قبائل أفريقية تقرع لأي اختلاج في أغصان الأشجار ولأي يقظة متحفزة للنمل. شعوب بلا أهل ولا أخوة يتفقدونها في الصباح بأكواب اليانسون الساخن، يجسون نبضها المضطرب، ويحادثونها قبل أن تنسى الكلام، ويعدونها باسترداد العافية، وحفنة من الآمال التي تساعد لإكمال الحياة. حولها الزمن وخواتيمه إلى كلاب تركض خلف قوة الحاسة المتأججة لأنوفها الذليلة، وهي تقلّب في أعماق أكوام الحطام، لاسترداد ما تبقى من الرائحة الأنسية المخنوقة تحت هذه الخرائب.
يوميات حلب
يهزون، من حين لآخر، باطن أكفهم المفتوحة فوق شتلات الحبق المركونة قربهم، التي تتصاعد أعذاقها القزمة، من داخل أوعية معدنية رقيقة، ملأتها يوماً زيوت معدنية أو أوعية أصغر حجماً لسمون نباتية، مُلئت بالتراب. يرفعونها بعدها إلى أنوفهم متنشقين عطرها الحارق.
تتعالى أصوات زوجاتهم من جوف المطابخ وهن منكبات فوق الباذنجان وشرائح اللفت المتبلة بالملح والكزبرة، تقطعن البصل وتمتحن جدارته برميه في الزيت الساخن، بينما تنقع بناتهن الواقفات قربهن فسائل الهندباء بأوعية توتياء فتتها الصدأ، وقد ملأنها بالماء بغية إخراج المرارة من جوف أوراقها.
يحذرن أولادهن بخوفهن الراسخ - الذين يتابعون استحمامهم بمياه تتدفق من فوهة خرطوم مضموم إلى مخرج صنبور نحاسي واطئ - من انزلاق مباغت لإقدامهم الحافية على الحجارة الصقيلة، وبتنبيهات متتالية لإجادة استخدام الصابونة المفردة وتبادلها بين بعضهم بعد الانتهاء منها، وبأوامر حازمة لتدليك الشعر ومنابع العرق.
- ألم يختمر الشاي؟ نحن اختمرنا.
يسكبونه في كؤوس بلور شفافة، برفع الإبريق إلى الأعلى ليفصح عن فقاعات شفافة على سطح الكؤوس الغامق.
عاشوا لسنوات ببهجة خلاصية بعدما تحرروا ذاتياً، أو حررهم الزمن المتعاقب من أسر الإحساس بالذنوب. ربما لأن مفهوم الذنب قد تغير مع مرور الزمن كما هو حال التغيرات الأخرى في أنماط اللباس والأطعمة والموسيقى.
- أتنتظرون أحداً؟
- ننتظر إقبال طفولتنا، تسير الهوينى بمحاذاة عربة بائع المثلجات.
****
وكانت تقف أمام النافذة المطلة على خلاء داكن، منتعلة "بابوج" منزلياً بكعب عال. تلبس فوق جسدها العاري "كوملبيزون" بلون العسل. تعقد حول عنقها منديلاً من الموسلين المعرق بمويجات ألوان بساتين الربيع. تبسط ذراعيها على مداهما الضيق كأنها تتهيأ للدعاء.
تطلق صوتاً من ناي ذكرياتها مسترجعة سهوب طفولتها، حركة اليرقات فوق اخضرار ورق توت أشجارها: "حوّل يا غنّام". غير مدركة أنه ما من غنّام في هذه المدينة ولا خراف تتبعه. غنت لتشيّع وحشتها ووحدتها قبل إطلاق فراشاتها الهزيلة إلى أعماق الغسق المسموم.
تخرج من بوابة عمارتها بخطوات وجيزة، كأنها إيقاعات لكلام مقفى. لم تتقصد وهي تقرّع الأرض بكعب حذائها الصلب توبيخ بلاط الرصيف على تحدّبه. كما لم تسع لتقويم اعوجاجه برأس النعل المدبب. تتجه كما يتجه كل المشاة إلى حيث تلتقي الشوارع ببعضها.
لكنها كانت تومئ إلى بلاغة ساقين من رخام، تستوجبان التبجيل، بتسوية الأرصفة وتنظيف الشوارع والتنحي جانباً لإتمام عبورها الرّيان برشق المكان بقبضات ملح من أجل امتصاص الرطوبة التي بللت تويجات الشوارع بندى العاطفة.
لا تتركوا هذه الفتاة الوحيدة تضيع.
كأن تتناسوا اسمها في زحمة الأسماء العابرة، وقوة البهجة المحمولة كغيمة عابرة فوق أكنافٍ تيتمكم المخذول، بذكريات أهالي مضوا بذرائع السفر، ولم تعدهم نداءات أولادهم المتضرعة المتسربة من كوات النوافذ الضيقة.
منحتكم القدرة على طرق بلاط الأرصفة بالأحذية ذات التروس الحديدية، والتبرك بالعطور التي أخفاها كرم النباتات المجيدة في شعرها السبط.
حفزتكم على رفع أعناقكم إلى الأعلى لتتيقنوا من ارتفاع الشرفات، وقابلية الأباجورات للطي كما زوايا أوراق الكتب.
علمتكم ضرورة التمييز بين الغبار العابر في الهواء والتراب الراسخ في الأرض، واللاشرطية حين تُذكر البلاد وتُنسى كلمات نشيدها الوطني. والسعي لطول القامة لتلمسوا زوايا الشرفات بأطراف أصابعكم، وتنتزعوا جدارة احتضان الأشجار اليتيمة، التي تتعاقب خلف بعضها فوق الأرصفة وإسناد ذقونكم على أكتافها المفتوحة كأشرعة.
لا تتركوا هذه الفتاة الوحيدة تضيع، في حمى قطع الأشجار والدوس فوق ثمارها، وفصل الناس بالسواطير عن أرضهم وأهلهم وإهانتهم بكلام أشد فتكاً من الرصاص. وتجاوز انتهاك الوقائع إلى انتهاك الأحلام بتسلل أرعن إلى أعماقها بغاية تتمظهر ببلاغة أخلاقية كإعادة ترتيب تسلسلها بما يناسب فهرست التاريخ. وتبقى النفوس أمارة بالحرية التي بقيت حجراً في قاع نهر عصيًا على الصقل واللمس. عبرتها مياه الممالك والسلطنات والمتشبهين بهما، وبقيت نداء متصاعداً لشعوب يتيمة أذلها الوقوف خلف بعضها في طوابير لأجل حفنة برغل سلق بعجالة على نار دواليب الشاحنات، وخوف ثقيل كقوالب الزنك، حوّل قلوبها عنوة إلى طبول قبائل أفريقية تقرع لأي اختلاج في أغصان الأشجار ولأي يقظة متحفزة للنمل. شعوب بلا أهل ولا أخوة يتفقدونها في الصباح بأكواب اليانسون الساخن، يجسون نبضها المضطرب، ويحادثونها قبل أن تنسى الكلام، ويعدونها باسترداد العافية، وحفنة من الآمال التي تساعد لإكمال الحياة. حولها الزمن وخواتيمه إلى كلاب تركض خلف قوة الحاسة المتأججة لأنوفها الذليلة، وهي تقلّب في أعماق أكوام الحطام، لاسترداد ما تبقى من الرائحة الأنسية المخنوقة تحت هذه الخرائب.
يوميات حلب