16 ابريل 2017
ميتيران.. الاشتراكيون الفرنسيون في الحكم
بعد 23 سنة متواصلة من حكم اليمين الجمهوري، شهدت ثلاثة عهود رئاسية لم تكتمل إلا مع فاليري جيسكار ديستان، وبعد محاولتين باءتا بالفشل سنتي 1965 و1974، استطاع فرانسوا ميتيران أن يحقق الفوز الأول لليسار الفرنسي تحت الجمهورية الخامسة، وأصبح رئيسا للبلاد بعد مواجهة شرسة مع ديستان وجاك شيراك الذي بدأ يحضرّ نفسه ليصبح فعليا زعيم اليمين الديغولي الأول في المرحلة المقبلة.
بعد فوز اليمين بأكثرية ضئيلة في انتخابات 1978 التشريعية، ومع اندلاع الأزمة النفطية الثانية وانتصار الثورة في إيران، بدأت حكومة رايموند بار تنتهج سياسةً ليبراليةً واضحة في الانتقال إلى المنافسة الحرة وإلغاء الحمائية، فانخفضت القدرة الشرائية، وعانت البلاد من تضخم اقتصادي كبير، وانخفاض في الإنتاج الصناعي، وارتفاع مخيف في عدد العاطلين وصل إلى مليون وسبعمئة ألف شخص، ووصل الأمر إلى اعتبار 1980 "سنة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في فرنسا". وكان ذلك كله مؤشرا على تضعضع معسكر الرئيس ديستان، وعدم قدرته على معاودة الانتصار في الانتخابات المقبلة.
قبل أسابيع من انطلاق الحملات الانتخابية، ومع "فضيحة الماس" التي تورّط بها ديستان، وأصبحت نقطة سوداء في سجل الرئيس الثالث للجمهورية الخامسة، بدا فرانسوا ميتيران مرشحاً لليسار الموحّد، مرتاحا، هذه المرة، على الرغم من الإزعاج الذي بدأ يشكله جاك شيراك الذي قدّم في حملته الانتخابية شابا ذكيا اسمه، نيكولا ساركوزي (26 عاما آنذاك)، حمل لواء الشباب الشيراكي في وجه اليمين الليبرالي الذي جسّده ترشّح ديستان.
الخلاف الاشتراكي/ الشيوعي
حتى اليوم، يشير صحافيون وأدباء ومفكرون، إلى العلاقة الغامضة والملتبسة بين ميتيران والفاشية في شبابه، وفي دوره غير المباشر في صعود اليمين المتطرّف، في سنوات الثمانينيات. ويروي جان لاكوتور، في كتابه مع باتريك روتمان "رواية السلطة"، أنّ مشاركة ميتيران في مظاهرات 1935 ضد أستاذ القانون، غاستون جيزي، المعروف بمعاداته للنازية، كانت مدفوعة بضغط من مجموعة يمينية متطرّفة، تأسست مطلع الثلاثينيات على يد أوجين دولونكل، أطلقت على نفسها اسم "لا كاغول"، وكان ميتيران يتردد على لقاءاتٍ تعقدها المجموعة، قبل أن يصبح أحد أبرز وجوه حركة المتطوعين الوطنية (حركة يمينية قومية).
خلال الحرب العالمية الثانية، عمل ميتيران في إدارة حكومة فيشي الموالية للنازية مفوضا إعادة تصنيف أسرى الحرب، وتولى مسؤولية العلاقة مع الصحافة متحدثا باسم منظمة السجناء، وحصل على "فرانسيك" الماريشال بيتان تقديراً لإسهاماته في دعم حكومة فيشي.
ومع بداية العام 1943، بدأ ميتيران يضع قدما في معسكر المقاومة الفرنسية وديغول.
قبيل التحضير للانتخابات، وصلت مرحلة الوفاق بين الحزبين الاشتراكي والشيوعي الفرنسييين إلى طلاق نهائي، بعد الشروط الجديدة التي فرضها الشيوعيون على البرنامج المشترك سنة 1977. وفي انتخابات 1978، تكبّد اليسار خسارة أعادها الجميع إلى الانقسام الحاصل في صفوفه مع خلافٍ حول تحميل المسؤوليات في تلك الخسارة. حمّل ميتيران المسؤولية للشيوعيين، فيما رأى ميشال روكار أن حسابات الحزب الاشتراكي وميتيران كانت خاطئة. وبدا الخلاف داخل الحزب واضحا في مؤتمر ميتز، عندما تحالف ميتيران مع جان بيار شيفينمان لإقصاء ميشال روكار، وتم اختياره مرشحا عن الحزب، في مؤتمر كريتيل سنة 1981، بغالبية 84% من أصوات المنتسبين، فسارع روكار إلى إعلان سحب ترشحه، منعا لتشتت أصوات الاشتراكيين.
على الجانب الآخر، كانت بلدية باريس تشهد معركة انتخابية، للمرة الأولى في تاريخها، وقد استطاع جاك شيراك أن يفوز بها ممثلاً لحزبه "التجمع من أجل الجمهورية"، ويصبح عمدة للمدينة التي يحب. كانت العلاقة الشيراكية - الجيسكاردية قد بدأت تضعف، بعد استقالة شيراك من الحكومة، واتهامه ديستان بتمثيل المصالح الأجنبية في فرنسا. وفي مسعىً واضح لقطع الطريق على أي التفافٍ حول ديستان، وجّه شيراك نداءه "نداء كوشان" من داخل مستشفى كوشان، حيث كان يرقد للعلاج، بعد إصابته بجروح خطيرة في حادث سير، دعا فيه اليمين الديغولي إلى تشكيل مواطنة فرنسية حقيقة، كان اسم آلان جوبيه الأبرز من بين الأسماء التي بدأ شيراك يعتمد عليها لسنوات عشرين مقبلة.
في جو من الاتهامات المتبادلة بين الاشتراكيين والشيوعيين، أعلن الأمين العام للحزب الشيوعي الفرنسي، جورج مارشيه، ترشحه للانتخابات الرئاسية، في ظل تململ واضح لدى القاعدة الشبابية للحزب التي بدأت تظهر عدائيةً للشيوعية الأرثوذوكسية السوفياتية، خصوصا بعد تأييد مارشيه احتلال السوفيات أفغانستان وإحساس مضاعف بمسؤولية خسارة الانتخابات التشريعية الأخيرة، بعد رفض اقتراحات ميشال روكار والاشتراكيين.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول 1980، أعلن الفنان الفرنسي الساخر، كولوش، رغبته في خوض الانتخابات الرئاسية، ودعا، عبر التلفزيون، الكسالى، العاطلين عن العمل، المحششين، السكارى ومثليي الجنس، لانتخابه. كانت كل الأرقام تشير إلى إمكانية حصول كولوش على 16% من الأصوات، وحاز، في الوقت عينه، على دعم أسماء فكرية لامعة، كجيل دولوز وبيار بورديو وفيلكس غوتاري وموريس نادو، ما أثار حفيظة فرانسوا ميتيران والحزب الاشتراكي.
تلقى كولوش تهديدات بالقتل من مجموعاتٍ يمينية متطرفة، كانت أشهرها الرسالة الموقعة باسم "شرف الشرطة"، المجموعة التي تبنت اغتيال المفكر اليساري الراديكالي، بيار غولدمان، في الدائرة الثالثة عشرة لباريس، حاول جاك أتالي، صديق كولوش ومستشار ميتيران، أن يثني صديقه عن المضي في ترشحه، حتى أعلن انسحابه في أبريل/ نيسان 1981.
ومن بين الأسماء التي أعلنت ترشحها ديغولياً رئيس الحكومة الأسبق، ميشال دوبريه، الذي كان يعتقد أنّ دعم "صقور الديغولية"، كجاك- شابان دلماس وأوليفيه غيشار وموريس دريون، من دون المرور عبر الحزب، وحصول إجماع على اسمه، سيصبّ في مصلحته، لكنّ نتائج الدور الأول جاءت عكس ما كان يرسم، ولم يحصل دوبريه على أكثر من 1,7% من الأصوات. ومن خلفية ديغولية أيضا، استفادت ماري فرانس غارو من خبرتها في العمل مع الرئيس الأسبق، جورج بومبيدو، ومن صداقتها مع جاك شيراك، لتطرح نفسها مرشحة مستقلة مع صبغة ديغولية، ولهدف واحد هو "إزعاج ديستان الذي خدع مناصريه، والذي كان يعتقد أنه أذكى وأكبر من فرنسا".
جرت الانتخابات في 26 إبريل/ نيسان 1981، ووصل جيسكار ديستان أولا فيما حل ميتيران ثانيا أمام جاك شيراك، ومرشح الحزب الشيوعي جورج مارشيه الذي حصد 15,3%، وحلّ رابعا. وسجلت النتائج حصول بريس لالوند، مرشّح الخضر، على 3,9%، وهي النسبة الأكبر التي يحصل عليها مرشحٌ عن الخضر، في كل انتخابات الجمهورية الخامسة. وفي الدور الثاني، استفاد ميتيران من أصوات الشيراكيين الذين عاقبوا ديستان، وصوتوا سرا لميتيران بعد الدعوة الخجولة من شيراك، للتصويت لجيسكار ديستان، وهو ما كشف عنه لاحقا ميتيران في مذكراته، حين قال إن شيراك وعده بتجيير أصواته له، وهو ما حصل، فكانت مكافأته تعيينه رئيسا للحكومة في العهد الجديد.
العهد الرئاسي
في الأسبوع الفاصل بين الدورين، الأول والثاني، من انتخابات 1981، سرّبت صحيفة "لو كانار أنشانيه" ملفّاً خاصا بترحيل يهود مدينة بوردو، وسوقهم إلى معسكرات النازية خلال الحرب العالمية الثانية. كانت القرارت الصادرة سنة 1943 تحمل توقيع موريس بابون، الرجل الذي ارتبط اسمه لاحقا بحلقات التعذيب والرعب في الجزائر المنتفضة على الاستعمار. في العنوان الذي حملته الصحيفة الفرنسية آنذاك "وزير جسكاردي سابق مسؤول عن ترحيل يهود فرنسا". ويشير إريك كونان الذي أعد كتابا مشتركا مع هنري روسو عن نظام فيشي في الذاكرة الفرنسية المعاصرة أنّ تسريب ملف التهجير جعل 200 ألف صوت يهودي يذهبون إلى ميتيران، بعد أن كان هؤلاء ينوون التصويت لديستان.
في الوثائقي الذي أعدّه كل من فرانسوا ماليي وبنجامان ستورا "فرانسوا ميتيران وحرب الجزائر"، يشير المخرجان إلى الدور الذي لعبه ميتيران، وكان وزيراً للداخلية ثم وزيرا للعدل سنة 1956، في حملات التعذيب في الجزائر. وهي الفترة نفسها التي كان فيها موريس بابون واليا على قسنطينة، ومنها انتقل إلى باريس، ليشرف على الشرطة الفرنسية، فتكون له اليد الطولى في مجزرة أكتوبر/ تشرين الأول 1961، عندما أصدر أوامره لقمع المظاهرة ورمي المتظاهرين في نهر السين وإخفاء الجثث في غابتي بولونيا وفانسان على أطراف العاصمة.
تبقى شهادة، رولان دوما، وزير خارجية ميتيران، في كتابه "ضربات وجراح" الذي صدر عام 2011 من أكثر الشهادات مصداقيةً، خصوصا في ربطها بين مسؤولية ميتيران عن العنف والتعذيب في الجزائر، وإلغائه عقوبة الإعدام في بلاده فور انتخابه. ويقول دوما مستندا إلى رواية جوزف أندراس "من إخواننا الجرحى" إنّ "ميتيران اتخذ قرارا بإعدام المناضل الفرنسي الشيوعي، فرناند إيفتون، مع الثائرين، محمد الأخنش ومحمد أونوري، ذات فبراير من عام 1965، ليصبح إيفتون الأوروبي الوحيد الذي أعدم في حرب الجزائر. وقد ألغى ميتيران عقوبة الإعدام، كي يكفر عن ذنبه في قطع رأس إيفتون".
وتحت شعار "القوة الهادئة"، دخل ميتيران إلى الإليزيه، وقد اختار شجرتي البلوط والزيتون رمزين للسلام والقوة، عمل المصمم ميشال ديزلي على رسمهما لتصبحا ملصقا رسميا ارتبط بحملات ميتيران الانتخابية. وفي اليوم التالي لوصوله، حل ميتيران الجمعية الوطنية، ودعا إلى انتخابات جديدة، فاز الاشتراكيون بأغلبية المقاعد، وتم تشكيل حكومة اشتراكية، برئاسة بيار موروا، من دون الحاجة إلى تحالف مع الشيوعيين الذين غابوا عن التشكيلة الوزراية، فيما حضرت أسماء اشتراكية وازنة، مثل غاستون ديفير، ميشال روكار، جاك ديلور وآخرين.
اتصفت حكومة موروا الأولى باتجاه كينيزي، في رفض التسليم بنظرية "التوظيف الكامل في الاقتصاد الكلي"، واتجه نحو توطين مصارف عديدة (باريبا، سويز..) والشركات الصناعية (تومسون، بوك..)، واستمر الأمر على ما هو عليه مع حكومة لوران فابيوس (1984- 1986) حتى نجاح اليمين الجمهوري في الفوز في الانتخابات، وإجبار ميتيران على تسمية رئيس حكومة يميني سنة 1988، فاستلم جاك شيراك رئاسة الوزراء، ودخلت فرنسا عهد "التعايش الأول".
فور انتخابه، ألغى ميتيران محكمة أمن الدولة، وعقوبة الإعدام، وتم في عهده تحديد مدة العمل القانونية بـ 39 ساعة، مع رفع مدة العطلة الأسبوعية إلى خمسة أسابيع سنويا. وتمت مضاعفة ميزانية وزارات الثقافة والتشغيل والسكن، كما أصدر مرسوما سنة 1948، يسمح للحكومة بمنح مساعدات مالية للشركات، في مسعى إلى تحقيق المساواة بين الموظفين في الأجور. وقد شهد العام 1986 إصدار قانونٍ، يلغي فصل العمال تعسفيا، وتم إنشاء معهد العالم العربي سنة 1987.
خارجيا، شهدت بداية عهده توترا في العلاقة مع السوفيات، بسبب إبعاده 47 دبلوماسيا روسيا على خلفية اتهامات بالتجسّس. وعلى الرغم من حفاظه على السياسة الديغولية في التقرب من العرب، أرسل ميتيران قوات عسكرية إلى لبنان خلال الحرب الأهلية سنة 1983، لكنها سرعان ما انسحبت بعد الانفجار الكبير الذي قتل فيه 85 جنديا فرنسيا في بيروت. ويعد قطع العلاقات مع إيران سنة 1987 الحدث الأبرز خارجيا في ولايته الأولى، بعد رفض السفارة الإيرانية في باريس تسليم دبلوماسي، اتهمته باريس بالتنسيق مع مجموعاتٍ متطرّفة، لتنفيذ عمليات إرهابية في فرنسا.
قبل أسابيع من انطلاق الحملات الانتخابية، ومع "فضيحة الماس" التي تورّط بها ديستان، وأصبحت نقطة سوداء في سجل الرئيس الثالث للجمهورية الخامسة، بدا فرانسوا ميتيران مرشحاً لليسار الموحّد، مرتاحا، هذه المرة، على الرغم من الإزعاج الذي بدأ يشكله جاك شيراك الذي قدّم في حملته الانتخابية شابا ذكيا اسمه، نيكولا ساركوزي (26 عاما آنذاك)، حمل لواء الشباب الشيراكي في وجه اليمين الليبرالي الذي جسّده ترشّح ديستان.
الخلاف الاشتراكي/ الشيوعي
حتى اليوم، يشير صحافيون وأدباء ومفكرون، إلى العلاقة الغامضة والملتبسة بين ميتيران والفاشية في شبابه، وفي دوره غير المباشر في صعود اليمين المتطرّف، في سنوات الثمانينيات. ويروي جان لاكوتور، في كتابه مع باتريك روتمان "رواية السلطة"، أنّ مشاركة ميتيران في مظاهرات 1935 ضد أستاذ القانون، غاستون جيزي، المعروف بمعاداته للنازية، كانت مدفوعة بضغط من مجموعة يمينية متطرّفة، تأسست مطلع الثلاثينيات على يد أوجين دولونكل، أطلقت على نفسها اسم "لا كاغول"، وكان ميتيران يتردد على لقاءاتٍ تعقدها المجموعة، قبل أن يصبح أحد أبرز وجوه حركة المتطوعين الوطنية (حركة يمينية قومية).
خلال الحرب العالمية الثانية، عمل ميتيران في إدارة حكومة فيشي الموالية للنازية مفوضا إعادة تصنيف أسرى الحرب، وتولى مسؤولية العلاقة مع الصحافة متحدثا باسم منظمة السجناء، وحصل على "فرانسيك" الماريشال بيتان تقديراً لإسهاماته في دعم حكومة فيشي.
قبيل التحضير للانتخابات، وصلت مرحلة الوفاق بين الحزبين الاشتراكي والشيوعي الفرنسييين إلى طلاق نهائي، بعد الشروط الجديدة التي فرضها الشيوعيون على البرنامج المشترك سنة 1977. وفي انتخابات 1978، تكبّد اليسار خسارة أعادها الجميع إلى الانقسام الحاصل في صفوفه مع خلافٍ حول تحميل المسؤوليات في تلك الخسارة. حمّل ميتيران المسؤولية للشيوعيين، فيما رأى ميشال روكار أن حسابات الحزب الاشتراكي وميتيران كانت خاطئة. وبدا الخلاف داخل الحزب واضحا في مؤتمر ميتز، عندما تحالف ميتيران مع جان بيار شيفينمان لإقصاء ميشال روكار، وتم اختياره مرشحا عن الحزب، في مؤتمر كريتيل سنة 1981، بغالبية 84% من أصوات المنتسبين، فسارع روكار إلى إعلان سحب ترشحه، منعا لتشتت أصوات الاشتراكيين.
على الجانب الآخر، كانت بلدية باريس تشهد معركة انتخابية، للمرة الأولى في تاريخها، وقد استطاع جاك شيراك أن يفوز بها ممثلاً لحزبه "التجمع من أجل الجمهورية"، ويصبح عمدة للمدينة التي يحب. كانت العلاقة الشيراكية - الجيسكاردية قد بدأت تضعف، بعد استقالة شيراك من الحكومة، واتهامه ديستان بتمثيل المصالح الأجنبية في فرنسا. وفي مسعىً واضح لقطع الطريق على أي التفافٍ حول ديستان، وجّه شيراك نداءه "نداء كوشان" من داخل مستشفى كوشان، حيث كان يرقد للعلاج، بعد إصابته بجروح خطيرة في حادث سير، دعا فيه اليمين الديغولي إلى تشكيل مواطنة فرنسية حقيقة، كان اسم آلان جوبيه الأبرز من بين الأسماء التي بدأ شيراك يعتمد عليها لسنوات عشرين مقبلة.
في جو من الاتهامات المتبادلة بين الاشتراكيين والشيوعيين، أعلن الأمين العام للحزب الشيوعي الفرنسي، جورج مارشيه، ترشحه للانتخابات الرئاسية، في ظل تململ واضح لدى القاعدة الشبابية للحزب التي بدأت تظهر عدائيةً للشيوعية الأرثوذوكسية السوفياتية، خصوصا بعد تأييد مارشيه احتلال السوفيات أفغانستان وإحساس مضاعف بمسؤولية خسارة الانتخابات التشريعية الأخيرة، بعد رفض اقتراحات ميشال روكار والاشتراكيين.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول 1980، أعلن الفنان الفرنسي الساخر، كولوش، رغبته في خوض الانتخابات الرئاسية، ودعا، عبر التلفزيون، الكسالى، العاطلين عن العمل، المحششين، السكارى ومثليي الجنس، لانتخابه. كانت كل الأرقام تشير إلى إمكانية حصول كولوش على 16% من الأصوات، وحاز، في الوقت عينه، على دعم أسماء فكرية لامعة، كجيل دولوز وبيار بورديو وفيلكس غوتاري وموريس نادو، ما أثار حفيظة فرانسوا ميتيران والحزب الاشتراكي.
تلقى كولوش تهديدات بالقتل من مجموعاتٍ يمينية متطرفة، كانت أشهرها الرسالة الموقعة باسم "شرف الشرطة"، المجموعة التي تبنت اغتيال المفكر اليساري الراديكالي، بيار غولدمان، في الدائرة الثالثة عشرة لباريس، حاول جاك أتالي، صديق كولوش ومستشار ميتيران، أن يثني صديقه عن المضي في ترشحه، حتى أعلن انسحابه في أبريل/ نيسان 1981.
ومن بين الأسماء التي أعلنت ترشحها ديغولياً رئيس الحكومة الأسبق، ميشال دوبريه، الذي كان يعتقد أنّ دعم "صقور الديغولية"، كجاك- شابان دلماس وأوليفيه غيشار وموريس دريون، من دون المرور عبر الحزب، وحصول إجماع على اسمه، سيصبّ في مصلحته، لكنّ نتائج الدور الأول جاءت عكس ما كان يرسم، ولم يحصل دوبريه على أكثر من 1,7% من الأصوات. ومن خلفية ديغولية أيضا، استفادت ماري فرانس غارو من خبرتها في العمل مع الرئيس الأسبق، جورج بومبيدو، ومن صداقتها مع جاك شيراك، لتطرح نفسها مرشحة مستقلة مع صبغة ديغولية، ولهدف واحد هو "إزعاج ديستان الذي خدع مناصريه، والذي كان يعتقد أنه أذكى وأكبر من فرنسا".
جرت الانتخابات في 26 إبريل/ نيسان 1981، ووصل جيسكار ديستان أولا فيما حل ميتيران ثانيا أمام جاك شيراك، ومرشح الحزب الشيوعي جورج مارشيه الذي حصد 15,3%، وحلّ رابعا. وسجلت النتائج حصول بريس لالوند، مرشّح الخضر، على 3,9%، وهي النسبة الأكبر التي يحصل عليها مرشحٌ عن الخضر، في كل انتخابات الجمهورية الخامسة. وفي الدور الثاني، استفاد ميتيران من أصوات الشيراكيين الذين عاقبوا ديستان، وصوتوا سرا لميتيران بعد الدعوة الخجولة من شيراك، للتصويت لجيسكار ديستان، وهو ما كشف عنه لاحقا ميتيران في مذكراته، حين قال إن شيراك وعده بتجيير أصواته له، وهو ما حصل، فكانت مكافأته تعيينه رئيسا للحكومة في العهد الجديد.
العهد الرئاسي
في الأسبوع الفاصل بين الدورين، الأول والثاني، من انتخابات 1981، سرّبت صحيفة "لو كانار أنشانيه" ملفّاً خاصا بترحيل يهود مدينة بوردو، وسوقهم إلى معسكرات النازية خلال الحرب العالمية الثانية. كانت القرارت الصادرة سنة 1943 تحمل توقيع موريس بابون، الرجل الذي ارتبط اسمه لاحقا بحلقات التعذيب والرعب في الجزائر المنتفضة على الاستعمار. في العنوان الذي حملته الصحيفة الفرنسية آنذاك "وزير جسكاردي سابق مسؤول عن ترحيل يهود فرنسا". ويشير إريك كونان الذي أعد كتابا مشتركا مع هنري روسو عن نظام فيشي في الذاكرة الفرنسية المعاصرة أنّ تسريب ملف التهجير جعل 200 ألف صوت يهودي يذهبون إلى ميتيران، بعد أن كان هؤلاء ينوون التصويت لديستان.
في الوثائقي الذي أعدّه كل من فرانسوا ماليي وبنجامان ستورا "فرانسوا ميتيران وحرب الجزائر"، يشير المخرجان إلى الدور الذي لعبه ميتيران، وكان وزيراً للداخلية ثم وزيرا للعدل سنة 1956، في حملات التعذيب في الجزائر. وهي الفترة نفسها التي كان فيها موريس بابون واليا على قسنطينة، ومنها انتقل إلى باريس، ليشرف على الشرطة الفرنسية، فتكون له اليد الطولى في مجزرة أكتوبر/ تشرين الأول 1961، عندما أصدر أوامره لقمع المظاهرة ورمي المتظاهرين في نهر السين وإخفاء الجثث في غابتي بولونيا وفانسان على أطراف العاصمة.
تبقى شهادة، رولان دوما، وزير خارجية ميتيران، في كتابه "ضربات وجراح" الذي صدر عام 2011 من أكثر الشهادات مصداقيةً، خصوصا في ربطها بين مسؤولية ميتيران عن العنف والتعذيب في الجزائر، وإلغائه عقوبة الإعدام في بلاده فور انتخابه. ويقول دوما مستندا إلى رواية جوزف أندراس "من إخواننا الجرحى" إنّ "ميتيران اتخذ قرارا بإعدام المناضل الفرنسي الشيوعي، فرناند إيفتون، مع الثائرين، محمد الأخنش ومحمد أونوري، ذات فبراير من عام 1965، ليصبح إيفتون الأوروبي الوحيد الذي أعدم في حرب الجزائر. وقد ألغى ميتيران عقوبة الإعدام، كي يكفر عن ذنبه في قطع رأس إيفتون".
وتحت شعار "القوة الهادئة"، دخل ميتيران إلى الإليزيه، وقد اختار شجرتي البلوط والزيتون رمزين للسلام والقوة، عمل المصمم ميشال ديزلي على رسمهما لتصبحا ملصقا رسميا ارتبط بحملات ميتيران الانتخابية. وفي اليوم التالي لوصوله، حل ميتيران الجمعية الوطنية، ودعا إلى انتخابات جديدة، فاز الاشتراكيون بأغلبية المقاعد، وتم تشكيل حكومة اشتراكية، برئاسة بيار موروا، من دون الحاجة إلى تحالف مع الشيوعيين الذين غابوا عن التشكيلة الوزراية، فيما حضرت أسماء اشتراكية وازنة، مثل غاستون ديفير، ميشال روكار، جاك ديلور وآخرين.
اتصفت حكومة موروا الأولى باتجاه كينيزي، في رفض التسليم بنظرية "التوظيف الكامل في الاقتصاد الكلي"، واتجه نحو توطين مصارف عديدة (باريبا، سويز..) والشركات الصناعية (تومسون، بوك..)، واستمر الأمر على ما هو عليه مع حكومة لوران فابيوس (1984- 1986) حتى نجاح اليمين الجمهوري في الفوز في الانتخابات، وإجبار ميتيران على تسمية رئيس حكومة يميني سنة 1988، فاستلم جاك شيراك رئاسة الوزراء، ودخلت فرنسا عهد "التعايش الأول".
فور انتخابه، ألغى ميتيران محكمة أمن الدولة، وعقوبة الإعدام، وتم في عهده تحديد مدة العمل القانونية بـ 39 ساعة، مع رفع مدة العطلة الأسبوعية إلى خمسة أسابيع سنويا. وتمت مضاعفة ميزانية وزارات الثقافة والتشغيل والسكن، كما أصدر مرسوما سنة 1948، يسمح للحكومة بمنح مساعدات مالية للشركات، في مسعى إلى تحقيق المساواة بين الموظفين في الأجور. وقد شهد العام 1986 إصدار قانونٍ، يلغي فصل العمال تعسفيا، وتم إنشاء معهد العالم العربي سنة 1987.
خارجيا، شهدت بداية عهده توترا في العلاقة مع السوفيات، بسبب إبعاده 47 دبلوماسيا روسيا على خلفية اتهامات بالتجسّس. وعلى الرغم من حفاظه على السياسة الديغولية في التقرب من العرب، أرسل ميتيران قوات عسكرية إلى لبنان خلال الحرب الأهلية سنة 1983، لكنها سرعان ما انسحبت بعد الانفجار الكبير الذي قتل فيه 85 جنديا فرنسيا في بيروت. ويعد قطع العلاقات مع إيران سنة 1987 الحدث الأبرز خارجيا في ولايته الأولى، بعد رفض السفارة الإيرانية في باريس تسليم دبلوماسي، اتهمته باريس بالتنسيق مع مجموعاتٍ متطرّفة، لتنفيذ عمليات إرهابية في فرنسا.
مقالات أخرى
13 ابريل 2017
11 ابريل 2017
05 ابريل 2017