موسكو: أنصار السلام أكثر من أعداء بوتين

23 سبتمبر 2014
العلّة الروسية قائمة على تخوين المعارضين (تاتيانا ماكاييفا/العربي الجديد)
+ الخط -
بطريقة ما، تحوّلت تظاهرة موسكو المعارضة إلى ما يشبه الكرنفال. وتحوّلت الهتافات المناهضة لسلطة المخابرات الروسيّة والرئيس فلاديمير بوتين، على وجه الخصوص، إلى ما يشبه رشّة ملح لا بدّ منها لجعل الوجبة لذيذة الطعم. أعدّت المعارضة طبق "السلام"، وتناولته السلطة وأنصارها بشهية.
لا شيء يُنذر بالتصعيد، ولا شيء يدلّ على انتصار لمعارضة الكرملين، يمكن البناء عليه. ومع أنّ الغالبية العظمى، كما بدا من أجواء التظاهرة ومن الأحاديث على هوامشها، تعارض تدخل الكرملين في أوكرانيا والشحن القومي أيضاً، فالجميع تقريباً يرفض الحرب.

وتبدو العلّة الروسية الكبرى، في التظاهرة وخارجها، قائمة على تخوين المعارضين، واعتبارهم مصدر الخطر الداهم الدائم الذي يتهدّد روسيا. فكل من ينادي بالحرية والديمقراطية، خصوصاً إذا طالب بتغيير النظام، يُعدّ عميلاً مأجوراً. وتظاهرة موسكو، قالت ذلك على طريقتها، إذ إنّ من الصور البارزة المُقحمة فيها من قبل الروس "الوطنيين"، رجلاً بلباس العلم الأميركي، وزّع الدولارات على المتظاهرين المعارضين. لكن حضوره لم يكن أكثر من ممثل في مشهد مسرحي مبتذل، عبره المتظاهرون بما يستحق من إهمال، حتّى إنّ هناك من تأفف في صفوف "الوطنيين" لابتذال التخوين.


ثلاثون بوابة إلكترونية لكشف المعادن والمتفجّرات مرّ عبرها الراغبون في التظاهر، ضدّ تدخّل الكرملين في أوكرانيا وضد حكم أجهزة الأمن للبلاد، وقف قربها رجال أمن فتشوا الحقائب وصادروا الولاعات، خشية اشعال النار. وسبق التظاهرة، بثّ إذاعة "صدى موسكو" بياناً دعت للتوقيع عليه، يتّهم السلطة الروسيّة بالفاشية، ويطالب برحيل بوتين.

محاولات عدة جرت لإحراق العلم الأوكراني من قبل "الوطنيين" الروس، أحبطها سريعاً رجال الأمن، وأخرى لتمزيقه، عانى أصحابها صعوبة في ذلك بسبب متانة قماشه. لكنّ كلّ ذلك، لم يحل دون تمزيق العلم الأوكراني وتلطيخه بصباغ أحمر، كناية عن الدم المراق في دونباس. وفي وسط طريق المعارضين، اختار أحدهم أن يرشقهم بالبيض، بعد تمركزه على سطح مبنى "مدرسة المسرح الحديثة".

كان واضحاً أنّ هناك من عمل بذكاء لإبطال فاعليّة التظاهرة. لم يتجل ذلك فقط بحضور عدد كبير من الموالين، يضاهي عدد المعارضين وأصواتهم، بل إنّ هناك من وقف على الرصيف وبثّ عبر مكبرات الصوت، أغاني رومانسية، رقص على موسيقاها بعض المتظاهرين وأخذتهم الموسيقى بعيداً عن جو السياسة والاعتراض. وتنوّع الحضور بين عجائز وأطفال وطلاب جامعات وغالبية من متوسطي العمر. بعض هؤلاء كانوا رجال أمن، دقّقوا في الوثائق عند مخارج محطات مترو الأنفاق، خشية عمليات استفزازية ينشب بعدها عنف، ومن كان بلا بطاقة شخصية، يُعاد من حيث أتى أو يُساق.

بدا طقس موسكو رائعاً مساء الحادي والعشرين من سبتمبر/أيلول. "صيف النساء الثاني" دفع كثيرات منهن إلى الخروج. معظمهنّ، إن لم يكن كلهنّ، يعارضن الحرب. كثيرات حملن صور قتلاهن، مستسلمات لمشيئة السماء، لا الأرض، ورحن يهتفن ضد الحرب، الهتاف الذي يمكن للكرملين أن يراه ضد كييف. وإلى جانبهن، بدا آخرون كأنهم يتنزهون، يسيرون من دون أن يصغوا لصراخ جيرانهم، ويوزعون الابتسامات ثم يلتقطون الصور التذكارية وسط جوقة الألوان.

ومع كثافة الحواجز المعدنيّة التي أُغلق بموجبها رصيفا الشارع الطويل عن إسفلته، لم يكن ممكناً الانضمام إلى التظاهرة، في أيّ مكان، أو الخروج منها إلى أيّ مكان. الجميع يدخلون المسار في ساحة بوشكين ويخرجون منه في ساحة ساخاروف. أمّا أصحاب المقاهي والمطاعم على جانبي الشارع فقد بدوا ممتعضين. يحصون خسائرهم، فلا رواد هذا اليوم ولا راغبين في الطعام، وكثيرون اعتلوا مصطبات مداخل مؤسساتهم، خصوصاً من المصوّرين. عبثاً حاولوا إقناعهم بعدم إغلاق مداخلها. وفي حين شغل "الوطنيون" المؤيدون، الأرصفة، وراحوا يطلقون الشعارات المضادة، كان رجال الأمن يمنعون وصولهم إلى الحاجز المعدني المحروس بعضلات وقامات رشيقة ونظرات حازمة وآوامر لا تقبل التراخي. لم تفد البطاقات الصحافية في تعديل أمزجة هؤلاء، فسرعان ما كانت الأيدي تمتد إلى العصي، ليبتسم الصحافي ويتابع سيره بحثاً عن طريق آخر.

صفوف متراصّة من رجال الأمن وسياراتهم أغلقت جميع الشوارع المتفرّعة عن خط التظاهرة المرسوم، بين الساحتين. وفيما كان يمكن تأمّل رجال ونساء، على امتداد الرصيف، بشرائط ملفوفة على سواعدهم كتب عيلها "لجان شعبيّة"، تبيّن بوضوح أنّ اللجان الشعبيّة التي تمّ تشكيلها لإحباط أي ميدان معارض يدعو إلى الثورات، شكلان: علني يتألف من كبار السنّ من نساء مسالمات ورجال طيبين، وسرّي من شباب أقوياء البنية متوعّدين، موزّعين بين المتظاهرين، ظهرت عضلاتهم عند محاولات إثارة الشغب النادرة التي تخلّلت المظاهرة.
إضافة إلى الهتافات وصراخ الحناجر المبحوحة والأغاني والشتائم واللكمات النادرة، رافقت المشهد موسيقى تصويرية رتيبة. إنّه ضجيج مروحيّة لم تغادر الأجواء، على مدى الساعات الثلاث. بدأ التجمهر قبل انطلاق التظاهرة بساعة، ورُخّص لها بالاستمرار ساعتين، وبعد انقضائها تراصت صفوف رجال الأمن وفرّغتها في بوابات محطة مترو "كراسنيي فاروتا" (البوابات الحمراء).
يُذكر أنّه طغت على هتافات "تظاهرة موسكو"، التي على الرغم من كل شيء، أعادت الشعور بقوّة الشارع إلى كثيرين، دعوة جامعة إلى السلام، جعلت هتافات إسقاط بوتين، وغيرها من الشعارات المعارضة والموالية تبدو ضئيلة في خلفيتها.
المساهمون