سنة 1998، كتب الجامعي الفرنسي كريستوف بيدنت سيرة فكريّة عن موريس بلانشو تحت عنوان "الشّريك اللامرئي". في الحقيقة، هي عبارة سعيدة تصف ببلاغة لا مثيل لها حياة الكاتب الفرنسي موريس بلانشو (1907 - 2003)، بسبب تعلّق اسم الرّجل وأعماله بالغياب، أو تحديداً هو الحاضر بكتاباته وبالتزامه الأدبي والسّياسي على حدّ السّواء والغائب جسديّاً إلى درجة انعدام وجود صور فوتوغرافيّة له، ما عدا تلك الّتي يظهر فيها أيّام الشّباب جنباً إلى جنب مع الفيلسوف إيمانويل ليفيناس، أو تلك الّتي يظهر فيها شيخاً هرماً يتقدّم كالظلّ أو كأحد شخوص أفلام مصّاصي الدّماء.
نعم، عاش موريس بلانشو لفترة طويلة كشخص لا مرئي، لا صورة له، لا حوار في الجرائد أو في التلفاز، ولا صوت مسموع. عاش وفيّاً للعبارة الّتي اختارها للتّعريف بنفسه في أولى صفحات كتبه عند ناشره "دار غاليمار": "موريس بلانشو، روائي وناقد، ولد سنة 1907. سخّر حياته للأدب وللصّمت الخاصّ به".
الغريب في الأمر أنّ بلانشو لم يغب عمّا سمّاه في أحد كتبه "الفضاء الأدبيّ"، بمعنى أنّه حاضر عبر كتبه من الثلاثينيات إلى بداية الألفيّة الثّانية كقارئ متأنّ متابع لأهمّ الأصوات الشعريّة والروائيّة والفلسفيّة المعاصرة له (صموئيل بيكيت، جورج باتاي، ألبير كامي، رينيه شار، هنري ميشو، لوي ريني دي فوري، ميشيل فوكو، إيمانويل ليفيناس، باول تسيلان)، وكأديب جعل من الاشتغال على اللغة والتفكير فيها وفي الأجناس من رواية وسرد وكتابة بالمعنى السّامي للكلمة هدفاً لحياته، هو الذي لم يتوقف عن كتابة مقالات فكريّة وسياسيّة لعقود طويلة في أهمّ المجلات الباريسيّة.
هذا الحضور يمتدّ على فترة ليست بالسّهلة، منذ صدور "خطوات خاطئة" سنة 1943، أي أيّام الحرب العالميّة الثّانية واحتلال باريس وفرنسا من قبل الألمان، وصولاً إلى كتاب "صوت جاء من مكان آخر" سنة 2002.
خلال كلّ هذه السّنين، ما انفكّ بلانشو عن الكتابة والتّفكير، وعن القراءة والتحليل، وعن الصّمت الرسمي والـ"بوليميا" أي مرض الشّره المتمثّل هنا في الكلام الصّامت كفعل متماه مع الكتابة الّتي مارسها بلانشو من الومضة الخاطفة في أسفار ذات عناوين ضاربة في العمق والغموض ("خطوة الما بعد" الصادر في 1973 أو "كتابة المصيبة" في 1980)، إلى مصنّفات دسمة تشبه تلك الكتب الخارجة عن الزّمان والمكان، وتذكّرنا بالعصر الذهبي للحضارات وللآداب وللإنسان، مثل "الحوار غير المحدود" (1969).
لكن، من أين يستمدّ بلانشو القوّة أو الطّاقة الكافية لكتابة كلّ ما كتب؟
في ذكرى عيد الميلاد العشرين لمجلّة "الملاحظ الجديد"، سنة 1984، تحدّث بطريقة وجيزة وعميقة عن التواريخ التي أثّرت في حياته ككاتب وكإنسان: "هل حقّاً للملاحظ الجديد عشرون سنة؟ أحياناً، تبدو لي أصغر سنّاً وأحياناً أكبر في السنّ: خاصّة وأنّي أتذكّرني قد تعاونتُ مع "الملاحظ الفرنسي"، وهذا ما يُرجعني لفترات أكثر قدماً. لهذا السّبب سأجيب أفضل إن عدتُ بالزّمن. بالنّسبة لي، ما كانت له قيمة، هو بعض اللقاءات، حيث تبدو الصّدفة ضروريّة.
لقاءات برجال، لقاءات بأماكن. إنّه نصيبي من البيوغرافيا". ويواصِل بلانشو: "اللقاء مع إيمانويل ليفيناس (ستراسبورغ 1925). هوسّرل، هايدغر، الاهتمام باليهوديّة. اللّقاء بجورج باتاي وريني شار (1940). النّداء لارتكاب المخالفات. التّجربة-الفاصلة. مقاومة المحتلّ وحكومة فيشي. السرّية. قرية إيز (1947-1957). عشر سنوات من الكتابة المنعزلة. اللّقاء مع روبار أنتيلم وأصدقائه (1958). حرب الجزائر، "إعلان المائة وواحد وعشرين"، محاولة مجلّة دوليّة. مع الجميع ومع الكلّ، ماي 1968".
هذه حياة موريس بلانشو، حياة على شفا جراح، بين البحث اللاّمتناهي عن الحقيقة وعن الحريّة وعن العدل، كما سنقرأ في نصّ "لحظة موتي"، الصّادر عن "دار فاتا مورغانا" في شكل كتيّب من عشرين صفحة ووقع طبعه تحديداً في تاريخ 22 أيلول/ سبتمبر 1994، وكأنّ الصّامت بلانشو يريد من القارئ النّبيه أن يتحاور معه ويملأ بنفسه الفراغات.
وهذا ما يمكننا الإقرار به عند ربط الأحداث والأسماء والوقائع ببعضها البعض: يبدو أنّ هذا النصّ المتمثّل في حدّ ذاته بما يسمّيه بلانشو "التّجربة الفاصلة"، مكتوب بطريقة سلسة، في جمل بسيطة وعميقة، على طريقة المتصوّفة، يُخفي تجربة موت وحياة، التزام وإعدام، نجاة وولادة جديدة، استيقاظ الوعي والأرق الوجوديّين، كلّ هذا في معركة فاصلة تتمثّلُ في كتابة نصّ يروي هذه الملحمة الشخصيّة المرتبطة بالملحمة الوطنيّة الفرنسيّة خلال الحرب العالميّة الثّانية.
ـــــــــــــــــــــــــــ
المرآة ومغامراتها
يمكن اعتبار أعمال موريس بلانشو مرآة كبيرة تظهر على صفحتها مجمل الثقافة الفرنسية. لكن ذلك كان سبباً في انتقادات طاولته، حيث عاب عليه كثيرون هذا التدفّق اللامتناهي، والذي ينتقل فيه بلا خطة واضحة من ساد إلى فوكو، ومن كافكا إلى أحداث مايو 68. كلما جرى تفسير تجربة بلانشو جرت الإشارة إلى أنه ينتمي إلى فئة من المثقفين الذين لا يمكن الحديث معهم عن مشروعات فكرية أو أدبية، بل فقط عن مغامرات.